قبل 10 سنوات كنت التقيت ادريس جطو، وكان حينها يقود حكومة تقنوقراطية خلفت حكومة عبد الرحمن اليوسفي الذي خرج من القصر غاضبا، بدعوى عدم احترام المنهجية الديمقراطية. كانت مناسبة اللقاء إشرافه على إعلان انطلاقة «مبادرة تشغيل الشباب»، ولأن المناسبة شرط كما يعتقد الفقهاء، فإني سألت الرجل الذي جمع في الملتقى الذي نظم بالصخيرات، كل من يمكن دعوته إلى مثل هكذا لقاء، إن كان «جادا» في مبادرته؟ وأن مصيرها لن يكون كمثل الكثير من المبادرات التي رعتها الدولة وأنفقت الكثير من المال العام من أجلها، لكن انتهت دون أن تظهر نتائجها؟ كنت جادا في سؤال الوزير الأول، وكان هو أكثر جدية، وهو يجيبني «إذا لم يتحقق ما وعدت به، فإن باب مكتبي مفتوح لكم». قال إدريس جطو ذلك مع أنه كان حينها أعلن أمام الناس، وضمنهم جمعيات العاطلين، أن مبادرته تسعى إلى توفير 200 ألف منصب شغل في ظرف ثلاث سنوات فقط. طبعا لم تتحقق وعود الوزير الأول بتشغيل الآلاف من المعطلين، ولم يسأل كثيرون عن مآل المبادرة، في بلد يكاد لا يثق أحد في كلام مسؤوليه. لم أفكر في العودة لزيارة الرجل، لأنه كان غادر منصبه، لكن كنت كلما شاهدت العاطلين أو المعطلين يرفعون شعارات ضد سياسة الحكومة، كنت أتذكر كلام ادريس جطو وتعهداته. ولد الرجل في زمن لم يكن يجد فيه البسطاء من المغاربة ما يسدون به رمقهم. رأى النور بمدينة الجديدة في نفس العام الذي كان فيه الخراب يسود العالم، وبالضبط مع نهاية الحرب العالمية الثانية، التي كادت تفتك بمن على الأرض من البشر والزرع. أما في المغرب فاستبد بالناس الجوع والقهر حتى أرخوا له ب»عام البون». مع ذلك لم يتأخر الوالد في إرساله إلى المسيد، وفي وقت لاحق إلى المدرسة. كان تلميذا نجيبا ولذلك حظي بدعم كبير من طرف أساتذته، الذين شددوا على ضرورة مواصلة تعليمه، وهو ما رضخت له الأسرة التي كان يرعاها الأب، الرجل الذي كان يدير محل بقالة صغير. جاء إدريس إلى الدارالبيضاء، المدينة التي كانت تكاد تشتعل غضبا بسبب تلاميذ لم يترددوا منتصف ستينيات القرن الماضي في الخروج للاحتجاج ضد قرار ليوسف بلعباس، وزير التربية الوطنية آنذاك، قضى بفصل التلاميذ الذين تجاوزت أعمارهم سن التمدرس، لكن إدريس لم يكن يهتم حينها بما يجري حوله، فبعد أن التحق بإحدى أشهر مدارسها آنذاك، ثانوية الخوارزمي، كان مصمما أن لا يغادرها إلا وفي يده شهادة البكالوريا، وهو ما تحقق له فعلا. غادر ادريس وقد اشتد عوده وأصبح فتى يافعا الدارالبيضاء إلى الرباط ليلتحق بكلية العلوم، ثم ما لبث أن غادرها، بعد أن حاز دبلوم الدراسات العليا في العلوم الفيزيائية والكيمياء. كان ذلك سنة 1966. نحن الآن في نهاية عقد الستينيات، كان البلد يزيد اشتعالا، وإضافة إلى الطلبة والتلاميذ، لم يعد الساسة يترددون في الجهر بتذمرهم، بعد أن وجدوا أنه في زمن الاستقلال عن فرنسا لم تتحقق كل طموحاتهم، وحتى العسكر كانوا شرعوا في التداول سرا، كيف سيمكنهم الإطاحة بنظام الحسن الثاني، غير أن جطو، الذي سيكسب سنوات قليلة بعد ذلك ثقة القصر، كان يبدو غير معني بكل ما يجري، وحده مستقبله المهني كان يكاد يشغل باله. في نفس السنة، أي 1966 ، سيرحل إدريس جطو إلى إنجلترا، عوض فرنسا لاستكمال دراسته، قبل أن يعود بعد سنتين بدبلوم «تدبير وتسيير المقاولات» من جامعة «كوردوينرز كوليج أوف لندن». لم يكن سفر جطو بتخطيط مسبق، لكنه مع ذلك كان السفر الذي حول حياة الرجل من محاسب بسيط إلى رجل أعمال. فحينها كان التحق بشركة «باطا» موظفا مسؤولا عن حسابات الشركة، لكنها الصدفة التي دفعت وكيل الشركة المحلي إلى إيفاد بعض أُطر الشركة إلى لندن بغاية تلقي تكوين علمي يمكن الشركة الرائدة حينها في صناعة الأحذية من توسيع مجال عملها بالمغرب. في ذلك الوقت، كانت العلامة التجارية «باطا» مقترنة بالحذاء الراقي والمتين الذي تلبسه، على الخصوص البورجوازية التي كانت بدأت تحتل وتسيطر على المناصب العليا، في البلد الذي كان حصل حديثا على استقلاله السياسي، غير أن طموحات جطو كانت أكبر من أن يستمر موظفا، حتى لو كان ذلك بأجر عال، لا يحلم الكثير من المغاربة بالحصول عليه. فإدريس جطو يعرف القريبون منه أنه رجل يميل إلى التحدي. ولذلك وبعد سنوات قليلة سيعلن الرجل مشروعه الخاص، وهو المشروع الذي سيتحول إلى علامة رائدة تنافس «باطا»، الشركة المسجلة في كتاب الأرقام القياسية بوصفها «أكبر شركة لبيع الأحذية وصنعها». من الناس من يقول إن إدريس جطو دخل إلى القصر أول مرة ليقدم للحسن الثاني أحذية تليق بمقام الملك، وأن ذلك كان حصل باقتراح من عبد الرحمن بوفتاس، رجل الأعمال والوزير الذي كان قريبا من القصر. علما أن جطو لم تشمل أعماله الخاصة فقط صناعة الأحذية، لأن رجلا مثل جطو استثمر في قطاعات أخرى منها الجلد والعقار والبناء والخدمات والنسيج. موازاة مع تأسيس جمعية «الأمانة» للقروض الصغرى. أما أول مرة يتولى فيها الرجل منصبا حكوميا، فقد كان في بداية تسعينيات القرن الماضي، حين تولى منصب وزير التجارة والصناعة في الحكومة رقم 21 التي شكلها محمد كريم العمراني. وفي الحكومة التي قادها عبد اللطيف الفيلالي في يونيو 1994، تولى إدريس جطو منصب وزير للخارجية، وخرج من الحكومة التي شكلها صهر الملك الراحل سنة 1995، لكن قبل ذلك، كان مثيرا للانتباه أن جطو الذي كان فاتح الملك الراحل صحبة محمد القباج في موضوع استفحال التهريب، هو نفسه الذي سينأى بنفسه عن الموضوع بعد أن قاد إدريس البصري ما عرف إعلاميا ب»الحملة التطهيرية»، والتي حولها رجل الدولة القوي آنذاك وأتباعه من «حملة» لمطاردة كبار المهربين إلى «فرصة» لتصفية الحساب مع كل الخارجين عن طوعهم. في آخر حكومة سيقودها الراحل عبد اللطيف الفيلالي، سيتولى إدريس جطو منصب وزير المالية، لكنه سيغادر ليس فقط الحكومة، ولكن أيضا الحياة السياسية، ليعود إلى إدارة مشاريعه الخاصة. في الصالونات السياسية يعرف كثيرون أن إدريس جطو حظي دائما بثقة الملك الراحل كما محمد السادس، ولذلك حين كان الملك يتداول مع اليوسفي حول حكومة التناوب أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان اقترح عليه أن يضم إدريس جطو إلى حزب «الوردة»، لكن اليوسفي عاد ليخبر الملك أن المكتب السياسي للحزب رفض هذا المقترح. أما جطو فسيحظى بثقة الملك الجديد، مباشرة بعد وفاة الحسن الثاني. يرى كثيرون أن ميزة إدريس جطو أنه مثل عسكري حذر يعرف كيف يسير فوق حقول الألغام، دون أن يضع قدميه على واحد منها، لذلك وضعت فيه الثقة غير ما مرة لتولي مهام، تكون «حساسة» في بعض الأحيان. وزيادة على ذلك، فإنه الرجل المتحفظ، البسيط، وفي الوقت الذي حافظ فيه دائما على علاقات متينة مع الأوساط الاقتصادية، وعلى علاقة ثقة بمسؤولين أوربيين، فإنه كذلك ميزته قدرته على فك ألغام الحقل السياسي دون الاصطدام مع المقربين من الملك، على حد تعبير بيير فورمان، الأستاذ المحاضر بجامعة السوربون. بعد تولي محمد السادس الحكم، تم تكليف إدريس جطو بتمثيل مصالح الأسرة الملكية داخل مؤسسة «سيجير» التابعة لشركة «أونا»، ومجموعة «ماروك سوار» والمكتب الشريف للفوسفاط، لكن مهام جطو لن تنتهي هنا، بل سيعود الرجل بقوة إلى العمل الحكومي، حين سيتم تكليفه بحمل حقيبة وزارة الداخلية في حكومة عبد الرحمن اليوسفي. كانت الأعين شاخصة تنتظر ماذا يمكن أين يقدم رجال «العهد الجديد» من إضافة إلى وزارة كاد تقترن باسم الراحل إدريس البصري. آنذاك كان فؤاد عالي الهمة يدير الشؤون الداخلية من خلف حجاب، بينما كان أحمد الميداوي وبعده إدريس جطو، يشكلان الواجهة التي يتتبعها الناس. وعلى نحو غير متوقع اعتبرت أول انتخابات تجرى في عهد الملك محمد السادس الأكثر نزاهة. كان ذلك بمثابة وسام على صدر إدريس جطو، الذي سيكافأ على ذلك بتعيينه وزيرا أول، في الوقت الذي كانت بدأت فيه المناوشات بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حول الأحق برئاسة الحكومة، قبل أن يغادر اليوسفي القصر غاضبا، وهم يتمتم أنه كان أولى باحترام المنهجية الديمقراطية. في حياة الرجل التي توزعت بين إدارة الأعمال وتولي حقائب حكومية في عهد ملكين، لا بد من الانتباه إلى أن إدريس جطو كان دائما رجلا لا يشبه باقي أبناء «دار المخزن»، فهو يعرف كيف يخرج من أزماته منتصرا. لكن يعرف القريبون منه أنه رجل أعمال «يحترف» التواصل، مثلما يعرفون أنه كما أنه «سريع البديهة» فإنه كذلك «مزاجي»، غير أنه صاحب شخصية «مرنة»، فهو لا يمانع أبدا في السير مع التيار. لم ينته مسار إدريس جطو بتسليمه مفاتيح الوزارة الأولى لعباس الفاسي، فهو لم يكد يرجع إلى إدارة أعماله التي كان «تركها» جانبا، حتى بدأ مسارا جديدا بعد تعيينه رئيسا للمجلس الأعلى للحسابات. كان ذلك قبل نحو ثلاث سنوات، لكن هل كانت صدفة أن يخلف إدريس جطو سلفه أحمد الميداوي في وزارة الداخلية، ثم على رأس المجلس الأعلى للحسابات؟ أم أن الرجل الذي يبدو أن القصر يعول عليه في الكثير من الملفات، كان دائما قدره فك ما عجز عنه الأول.