قبل عامين، وتحديدا في مارس 2016، احتفل لفيف من المثقفين المغربية بالذكرى الخمسين لمجلة "أنفاس"، التي أسسها الشاعر عبداللطيف اللعبي، رفقة عدد من الكتاب والمناضلين اليساريين سنة 1966، بغية مناقشة قضايا وأسئلة حارقة في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي المغربي آنذاك. ومنذ العدد الأول، صارت المجلة، بحق، منبرا للحداثة الفكرية التي تروم خلق ثورة ثقافية بالمغرب، وكسبت رهان هذه المغامرة الثقافية. لكن الرقيب أبى إلا أن يجهض المشروع برمته سنة 1973، وهو يمنعها إلى الأبد. في كتاب أصدرته الصحافية كنزة الصفريوي، قبل بضع سنوات، عن دار "سيروكو" بعنوان "مجلة أنفاس (1966- 1973): آمال ثورة ثقافية بالمغرب"، تستعيد تاريخ هذه التجربة، وتسلط الضوء على أفقها الأدبي والثقافي، وكذا الأثر الذي أحدثه في الأوساط الإعلامية والثقافية المغربية حينذاك. إذ تذكر أن المجلة صدرت في نسختها الفرنسية لأول مرة خلال مارس 1966، تحت إشراف الشاعر عبداللطيف اللعبي والكاتب مصطفى النيسابوري. أما النسخة العربية منها، فقد صدرت أول مرة في ماي 1971. يقول اللعبي، في شهادته عن هذه التجربة، في كتاب الصفريوي: "أعتقد أن اختيار اسم "أنفاس" كان مرتبطا بمفهومنا للشعر: إنه لا يرتبط فقط، بالمكتوب، بل هو أيضا كلام. ليست القصيدة نتاجا لسيروة ثقافية فحسب، بل هي اشتغال جسدي، طاقة، تحضر من بعيد، من ذاكرة فردية وجمعية، تخترق الجسد، تدخله إلى دائرة الفعل وتخرج من الفم. بالطبع، حين يقرأ المرء اليوم نصوص أنفاس، فهو لا يسمع صوت كاتبها. إنها نصوص ذات كتابة جد مكثفة. الاشتغال على اللغة أساسي في تجربة المجلة. لكن ثمة أيضا مقاربة للشفوي، لأنه منغرس في تقليدنا الثقافي الشعبي. لم يكن أدب نخبة معينة يهمنا، كان يبدو لنا جامدا. وبالمقابل، نجد في الثقافة الشعبية نغمة متعددة، سيرورات كانت تلتقي مع اهتماماتنا كشعراء معاصرين…" أما عن حدث المنع، فيؤكد أن الساهرين على الرقابة منعوا هذه التجربة، "لكنهم عجزوا عن حجبها فعليا. هذا هو الرائع في الأمر. خلال مدة طويلة، ظل الصمت سائدا حول أنفاس، صمت طال الجامعات أيضا. ومع ذلك، فهناك أطروحة عبدالرحمان طنكول التي هشمت هذا الصمت. ومنذ ذاك، أعادت أجيال جديدة اكتشاف المجلة، اكتشاف اتسعت دائرته بفعل توفرها على الإنترنيت. أظن أن مجلة أنفاس استبقت العديد من النقاشات التي تشغل المشهد الوطني اليوم." بينما تفيد شهادة زوجته جوسلين اللعبي: "كنت أرقن النصوص، أصحح الصفحات، أقوم بالمراسلات وأتابع الاشتراكات… كانت الاشتراكات موزعة على العديد من الدول: فرنسا، ألمانيا، تشيكوسلوفاكيا وجامعات أمريكية كثيرة… ساهمت طوني مارايني كثيرا في المجلة. وباستثنائها، حضر توقيعان أو ثلاثة توقيعات نسائية أخرى في المجلة. وفي الآن ذاته، ففي تلك المرحلة لم يكن يبرز إلا عدد قليل من النساء… لم يكن الأمر مقصودا. لو وجدت نساء كن يكتبن، لاقترحن أنفسهن…" ويذهب الروائي والناقد محمد برادة إلى أنه مع وجود المسافة الزمنية اللازمة اليوم، "يظهر أن مجلات أنفاس ومجلة للقصة والمسرح وأقلام، وخصوصا اتحاد كتاب المغرب الذي استعدناه في 1968، والذي نظمنا في إطاره فعاليات كثيرة، أن كل هذا أدى إلى تقليب تربة الأدب المغربي. كنا نصدر مجلة آفاق التي مازالت تصدر إلى حد الآن. كنا نناقش جميع الإصدارات الأدبية وخلال المؤتمرات… كل هذا هيأ الأرضية وسمح بالانعتاق من وزر نظرة ماضوية معينة، نظرة مازالت قائمة إلى حدود اليوم، كانت موجودة أساسا في الشرق العربي. لكنه يجب القول إن حركة التجديد كانت موجودة أيضا في الشرق العربي. كانوا يتوفرون هناك على تجربة أكبر، وأثروا على شعرائنا وروائيينا…" وخلافا لهؤلاء، يكشف الروائي الطاهر بنجلون أنه غادر المجلة بسبب خطها السياسي الإيديولوجي، حيث يقول إنه غادر المجلة، "نظرا لتصور أساسي، تصور أدبي. لم تكن المجلة قد بقيت فضاء للتعبير الأدبي، بل أصبحت مجالا للصراع السياسي والإيديولوجي. وهذا أمر مختلف. ودون إصدار حكم على ما كانت قد آلت إليه، فإنها صارت مختلفة عن مشروع البدايات. لم يكن هناك انسحاب لأننا قمنا بعملية مكاشفة: لقد ابتعدت عنها. لم أكن قد بقيت أشعر أني معني بالمجلة، مثلي مثل النيسابوري كذلك. كان لدينا معا الموقف نفسه تقريبا…".