يقدم الروائي أحمد المديني، في روايته الأخيرة «في بلاد نون»، عملا أدبيا يراهن على انتقاد العلاقة بين السلطة والمجتمع، وكشف جماليات تعبيرات الثقافة الشعبية المغربية. كل ذلك قائم على قصة تمزج بين الواقعي والخيالي ولغة رشيقة وسلسة توظف النظم الشعري والإيقاع الموسيقي. جاءت هذه الرواية الأخيرة سلسلة منسابة، وحضر البناء الشعري والإيقاع الموسيقي في العديد من الجمل، بل غلب حتى في الكثير من الفقرات. "الكتابة الأخرى" أو "السرد المختلف".. هو الموضوع الذي رصده الكاتب الروائي أحمد المديني في كتابه النقدي "كتابة أخرى: سرد عربي مختلف" الصادر قبل ثلاث سنوات بالضبط. وذاك هو الرهان الأدبي الجمالي والفني الذي سعى إلى تحقيقه في أعماله الروائية الأخيرة، خصوصا في رواياته "ممر الصفصاف" و"ظل الغريب" و"في بلاد نون". فعلا، فقد نجح المديني، من خلال هذه الأعمال الروائية الأخيرة، في أن يرسم قطيعة تامة ونهائية مع منجزه الأدبي، الروائي منه على الخصوص، الممتد على مدى نصف قرن. قوام هذا الرهان عمادان: يقوم الأول على تفكيك العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهو أمر حاضر في جل أعماله، لكنه واضح في هذه الأعمال الثلاثة، وبشكل أعمق، في روايته "في بلاد نون"، الصادرة عن المركز الثقافي العربي. أما الثاني، فيراهن على البناء واللغة، حيث أضحى بمقدور القارئ أن يتابع السرد بيسر أكبر، خلافا للأعمال السابقة التي تقتضي جهدا كبيرا في اقتفاء أثر السارد، نظرا لما تتسم به من أبنية مركبة ومعقدة. كما يلاحظ القارئ تغييرا واضحا في اختيار المعمار اللغوي، حيث جاءت هذه الرواية الأخيرة سلسلة منسابة، وحضر البناء الشعري والإيقاع الموسيقي في العديد من الجمل، بل غلب حتى في الكثير من الفقرات. لا بد من الإشارة، فيما يتعلق بموضوع الرواية، إلى أن أحداثها تكشف نوعا من النقد الأدبي الذي يوجهه المديني إلى طبيعة العلاقة التي تنسجها السلطة تجاه الإنسان والمجتمع. في هذا السياق، انتبه الناقد اللبناني سليمان زين الدين، في قراءته التحليلية لهذه الرواية التي نشرها في جريدة "الحياة" أواخر الشهر الماضي، إلى أن "في بلاد نون" ترصد العلاقة المتوترة بين السلطة والمجتمع، على اعتبار أن الأولى تسعى، بتحركاتها المشبوهة، إلى "صرف المجتمع عن همومه الأساسية وإغراقه في القلق على مصيره". هنا يخلص زين الدين، من خلال ما يقدمه المديني لحال أهل بلدة نون، أو نونة، إلى أن السلطة نجحت فعلا "في ترويض المجتمع، وتعرية رموزه، وإفراغها من مضمونها"، وإن كان يرى أن الطرفين يعيشان "وقائع كثيرة تعكس الصراع، الخفي والمعلن، بين السلطة والمجتمع الذي ينجلي عن نصر مؤزر للأولى على الثاني." لكنها تكشف الفساد والجشع الذي يميز الماسكين بزمام الأمور، وهي صورة يعكسها المقاول المعلم لمباركي، وكذا الجمود والسكون وجميع مظاهر الخوف التي تسكن الساكنة العاجزة والمستكينة، إلخ. غير أن الرواية تتميز بالتعدد في قضاياها ومواضيعها واهتماماتها. فبالإضافة إلى الخلاصة التي يستخلصها سليمان زين الدين من قراءته الرواية، لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تزخر كذلك بأبعاد موضوعاتية أخرى، لعل أبرزها تناوله الثقافة الشعبية المغربية بتعبيراتها المختلفة، ومنها الحكاية وطقوس الفرجة الشعبية، بأمكنتها البارزة (ساحة جامع الفنا) ورموزها (الحكواتيون)، وروافدها ومصادرها (حكايا الجدات)، إلخ. فبطل الرواية سلام، أو "بائع الأحلام" و"صانع الأوهام"، كما يعرفه الكاتب في الصفحة 290، يعكس هذا البعد في الرواية. وربما يترجم حضور الفرجة، من خلال حكواتيي ساحة جامع الفنا في مراكش، تلك العلاقة الملتبسة بين السلطة والمجتمع التي يغلفها الحكواتي، وباقي أبطال الفرجة الشعبية، بألبسة الكنايات والاستعارات والمجازات والقصص المرمزة، إلخ. إذ غالبا ما كان الحكواتيون مناضلين سياسيين بطريقتهم الخاصة. وهو أمر حاضر فيما يرويه سلام من حكايات في الرواية. غير أنه يمكن القول إن استحضار الثقافة الشعبية في هذه الرواية غايته التنبيه إلى خطر الانقراض الذي أخذ يأكل هذه التعبيرات، ويفنيها من فضاءاتها المعروفة (ساحة بوجلود بفاس، ساحة الهديم في مكناس، ساحة جامع الفنا بمراكش، إلخ). وهذا ما أشار إليه سلام، وهو يشير إلى أن موائد الأكل أخذت تزحف على ساحة جامع الفنا، وتدفع حكواتييها إلى المغادرة تدريجيا، حتى إنه يشير إلى أن خوان غويتسولو، الذي دافع بشراسة عن إدراج الساحة ضمن التراث الإنساني، ندم على ما فعل، عندما شاهد ما آلت إليه أحوالها في آخر حياته. ثمة إشارة أخرى، في سياق آخر من الرواية، إلى ما آلت إليه أوضاع الحكواتيين في الساحة الشهيرة، حيث يقول المديني في الصحة 284: "والحق، من يستزيد يزيد، أقصد من جانبكم، من درهم إلى عشرة، فالسوق في غلاء، والحكاية حتى ولو سفل رواتها وأخنى عليهم الدهر بكلكل، هي لعمري بلا ثمن، خاصة إن نزعنا عنها وحل الأرض، ولمعناها بصقيل الخيال…" يظهر من هذا وذاك ذلك التركيب الفني الذي يعتمده المديني في كتابة الرواية. ففي روايته هذه، يقدم المديني خطابا روائيا مركبا، يعالج العلاقة بين السلطة والمجتمع، لكنه يطرق قضايا أخرى، منها تعبيرات الثقافة الشعبية المغربية. كما أن مقاربته لهذه القضايا، بقدر ما تمزج بين الواقعي والتخييلي، فإنها تنبني على تقديم الجانب التخييلي منها في صورة فانتستيكية مدهشة ومغرية.