تحوّلت المنصات المخصصة لسهرات مهرجان موازين، في اليومين الماضيين، إلى مادة لمعركة طاحنة «افتراضيا»، بين الداعين إلى مقاطعة المهرجان والرافضين. هذا النقاش ليس جديدا، ويكفي أن نتذكر كيف أن دعوات المقاطعة في سنوات سابقة انتهت ببعض الشبان معتقلين في مخافر الشرطة. هل نجحت الدعوة هذا العام نظرا إلى تزامنها مع نجاح كبير لحملة مقاطعة ثلاث شركات كبرى؟ هذا ما يحاول دعاة المقاطعة إثباته بسيل من الصور والفيديوهات التي تظهر المساحات الفارغة أمام المنصات. بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، مؤسف جدا ألا يجد جزء من الشعب ما يقاوم به مدّ الهيمنة الزاحف غير مقاطعة الموسيقى، ومؤسف ألا تجد سلطة ما تدافع به عن شرعيتها إلا الموسيقى. نعم، نحن لسنا أمام تظاهرة فنية أو ثقافية عادية يؤخذ منها ويردّ، نحن بالفعل أمام «مهرجان الدولة»، ووجه من أوجه التدبير الذي يعتقد البعض أنه يغني عن طرح الأسئلة والإشكالات الحقيقية. جميل أن نصنع الفرح وننشر الجمال، لكن هل نحن بالفعل بخير؟ هل يمثل المهرجان تفعيلا لسياسة عمومية ترمي إلى التنوير وإشاعة الفنون، وتنزيل المشروع الحداثي الديمقراطي الذي تبشّر به الدولة؟ كلا، فالمهرجان بالنسبة إلى البعض ممن لا مشكلة لديهم مع الموسيقى والرقص، مناسبة تبرز فيها بشكل مكثف تلك المناطق المشوهة من بنائنا المشترك. فالدولة، بكل ما يرمز إليها من مؤسسات أمنية وإدارية وإعلامية، تستنفر عن بكرة أبيها لخدمة المهرجان، والشركات التي تموّله ويعتبرها أنصاره «خاصة» هي بالنسبة إلى الجميع مجرد تجسيد لامتدادات السلطة في مجال المال والاقتصاد. لذلك، لن يعدم النقاش المعتاد في مثل هذه المناسبة وجاهته بمجرد ما يتجاوز عتبة التحفظات الإيديولوجية التي يحملها البعض ضد الفن. لسنا أمام مهرجان فني «تجاري»، كما يحاول البعض أن يدعي، بل نحن، يا سادة، أمام منصة للبروباغندا المكثفة التي توظف جميع مؤسسات وإمكانات الدولة، من أمن ولوجستيك ونظافة وقنوات عمومية… فهل هذا فعلا ما يريده المغاربة؟ المواطنون اليوم يطالبون بعدالة أكبر في توزيع ثروات البلاد، يطالبون بالشغل لأبنائهم، بولوج خدمات السكن والصحة والتعليم بطريقة منصفة، ودون تمييز بين الذين يملكون والذين لا يملكون. المغاربة اليوم يريدون تحرير إرادتهم ومبادرتهم، سواء في الاقتصاد أو في السياسة أو في المجتمع. المغاربة يريدون دولة في خدمة الجميع، محايدة، وبعيدة عن اختلافات الرأي والانتماء والانحدار الأسري. جميل أن نحلم بدخول نادي الدول القادرة على صنع البهجة وتسويق صورة جميلة عنها واستثمارها قوة ناعمة، لكن، هل حققت تركيا نهضتها وصعودها الحضاري الكبير بالمراهنة على تنظيم كأس العالم أو مهرجان موسيقي كبير؟ هل انتظرت قطر والبرازيل وجنوب إفريقيا فرصة احتضان بطولة كأس العالم لتحقيق الإقلاع الاقتصادي والنمو السريع؟ هل يعقل أن بوتين وترامب كانا في حاجة إلى تنظيم المونديال لجعل روسيا وأمريكا ما هما عليه الآن؟ أبدا، التظاهرات الكبرى من هذا النوع تخدم تطلع الدول الراغبة في اكتساب قوة ناعمة في الدبلوماسية والتموقع الاستراتيجي، لكنها نتيجة لانطلاق فعلي لمركبة الصعود الحضاري والاقتصادي وليست وسيلة. الأولوية لإصلاح البيت الداخلي، وترتيب التوافقات على أساس قواعد الديمقراطية والعدالة والشفافية. لا يمكن أن يرفض مغربي استضافة الفرجة والفرح والجمال والبهجة، لكن الموروث الثقافي الأصيل لهذا الشعب أفرز مقولة بليغة وموجزة، هي التي تشجب وضع «العكر فوق الخنونة». الحاجة اليوم ملحة ومستعجلة إلى عرض إصلاحي جديد، يسترجع ما التهمته القوى المهيمنة غير المشروعة من عرض 2011. الأولوية اليوم لمشروع وطني جديد لتحرير الإرادة الشعبية من قيودها، وإطلاق الطاقات الفردية والجماعية للبناء على أساس مؤسسات فعلية وفعالة. الأولوية اليوم لمراجعة دستورية صريحة وشجاعة، لأن وصفة 2011 أثبتت هشاشتها وضعفها أمام قوى الاحتواء والإفشال من الداخل. أبطال المال والأعمال سيخدمون الوطن أكثر إن هم أسهموا في خلق بيئة اقتصادية نظيفة ومناخ استثماري مستقر. الناجحون في عالم المقاولة سيدعمون الوطن، إن هم تنافسوا في حلبة البورصة وملعب السوق وإرضاء المستهلك، وليس عبر مصارعة السياسيين المنتخبين وفرض الحراسة اللصيقة عليهم، وعرقلتهم بالهجمات المضادة، والإجهاز عليهم بالضربات القاضية. نعم للديمقراطيات مليارديراتها الحاكمون، من برلسكوني إلى ترامب، لكنها قبل ذلك حررت المجتمع، وأحاطته بمتاريس منيعة، من قضاء مستقل فعلا وأجهزة أمنية احترافية وخاضعة للقانون، وحكومات بسلطات حقيقية وبرلمانات قوية بشرعيتها الشعبية وإعلام حر ومستقل. أما أن نأتي نحن ونقلب الآية، فهو ضرب من ضروب «تسبيق الأجرة، إبطال للعمل».