في الوقت الذي لا يمل فيه البعض من ترديد تحليلات سطحية ومجتزئة، سوف لن نمل نحن في هذه الجريدة من قراءة وإعادة قراءة الحوار الذي خصّنا به رجل استثنائي، هو المستشار الملكي عباس الجيراري. فلكلمات هذا الأخير وزن خاص وقدر غير محدود من الاحترام. لهذا الرجل أفكار وقراءات قد تحتمل الخطأ والصواب، وقد يتفق معها المرء أو يختلف، لكن أهميتها تكمن في أن الأمر يتعلّق برجل أثبت كفاءته ونزاهته. رجل لا يستطيع أن يربطه محترفو التحليلات المراهقة ب«مداويخ»، ولا أعداء الوطن، ولا جموع العدل والإحسان، ولا يسار الكافيار، كما يفعلون مع كل من رفع صوته منبها إلى خطر الانزلاق المحدق بالمغرب. هذه الخراطيش التي يتسلّح بها بعض مرتزقة الكتابة والتحليل، لن تجدي مع هامة ثقافية ورجل تخلى عن مسار دبلوماسي بدأه في الستينيات ليجلس في محراب الجامعة، وأستاذ وجده الملك محمد السادس عضوا في ديوان والده الراحل الحسن الثاني، فسارع إلى ترقيته إلى درجة مستشار. فماذا يقول عباس الجيراري؟ سألت الزميلة فاطمة أبو ناجي محاورها عن موقفه من حملة المقاطعة الشعبية التي يعرفها المغرب منذ ثلاثة أشهر، فأجاب بأن الأمر يتعلّق ب«حرية منضبطة». هذه العبارة وحدها تكفي ردا على بعض السياسيين المتهافتين والمتسرعين، وحاملي خراطيش التخوين. الرجل اعتبر حملة المقاطعة الشعبية دلالة على موقف حضاري، «وهذا مبدأ موجود منذ القدم، فما أصبح غاليا أتخلى عنه، والشيء إذا ما غلا تركت شراءه، فيكون أرخص ما يكون إذا غلا». أكثر من ذلك، يدعوكم عباس الجيراري إلى عدم ترك مثل هذا الموقف الحضاري عشوائيا، «ذلك أن عشوائيته تتيح إمكانية التسرب إليه من جهات أخرى، وإفساده واستغلاله في غير ما جاء من أجله. وبدلا من إعلان تهييء قانون يحارب المقاطعة، ينبغي أن ينظر المسؤولون إلى أسباب هذه المقاطعة. والمسألة لا ينبغي أن ندخل فيها الشعب، فهذه مسألة بين أصحاب رؤوس الأموال والحكومة». عباس الجيراري يحدثكم، يا سادة، عن شيء اسمه المروءة، «ومن المروءة في التعامل ألا يراكم الناس الملايير، وإنما يجب الحفاظ على الربح بتوسط مراعاة لواقع المجتمع. لأن هذا المجتمع لا سبيل له لمواجهة هذا الغلاء». بعيدا عن منطق التزلف أو التخوين، يتحدث عباس الجيراري بلسان الوعي الجماعي للمغاربة والوطنية التي لا تحتاج إلى صك غفران من أحد، ويقول إن النظام الملكي في المغرب هو ضمانة تفتقر إليها دول تتخبط في الاقتتال والخلافات، «هذه الملكية التي تشتغل وتطور نفسها لتساير متطلبات العصر. وفي هذا الصدد نادى الملك منذ أكثر من سنة بأن النموذج التنموي لم يعد صالحا، وقال إننا في حاجة إلى نموذج جديد للتنمية. لكن، من استجاب للنداء؟ أين هم خبراء التنمية؟ أين هم المسؤولون ليطرحوا ويقدموا أمامه مشاريع وبدائل جديدة؟». هذا خروج لرجل استثنائي، وكلمة ألقاها في زمن خرست فيه ألسنة العقلاء، وترك فيه الحبل على الغارب للمسترزقين. هذا الرجل يسألكم، يا سادة، أين هم العلماء والمثقفون؟ أين هم أساتذة 17 جامعة مغربية؟ لكن الرجل لا ينتظر منا جوابا، بل يعلن جازما أن العلماء «صمتوا وقنعوا بالفتات القليل. والمثقفون غير مبالين، يدخلون الجامعات ويغادرونها بانتظام لامبال. النخبة اليوم صمتت، ولا يمكن أن ننتظر الإصلاح من العامة ولا ممن يتلاعبون بعقول العامة». خرجة عباس الجيراري صرخة علينا أن ننصت إليها جميعا، فالرجل يوجه نداء إلى من يفترض فيهم أن يكونوا نخبة في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة. الجيراري يذكرنا بمسؤولية النخب في محاربة الفساد والتفكير للوطن، لأن المجتمع بطبيعته منهمك في الجري وراء لقمة العيش. الجيراري قال لكم، يا قوم، إن على المسؤولين أن ينزلوا إلى الشارع ويتأملوا أوضاع الشعب، «أما أن يبقى الواحد منهم في برجه العاجي لا يتعامل إلا مع المليارديرات، فإنه لن يعرف أو يصحح شيئا».