ما إن بادر بعض المغاربة إلى التفاعل مع الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية التي تعصف بتركيا هذا الأسبوع بفعل الهجوم الأمريكي ضدها، حتى خرجت بعض الأصوات منكرة على هؤلاء حقهم في التعبير والتفاعل. إسقاطات واختزالات خرجت من جعبة من يتوهمون حيازة صكوك الوطنية، لتصبح تركيا العلمانية، بقدرة قادر، إمارة إخوانية، وأردوغان المنتخب في شبه استفتاء يشهد العالم بديمقراطيته، شيخا سحر عقول بعض المغاربة واستبد بإرادتهم، وجعلهم يدونون تضامنا مع الليرة التركية التي تسبب لها دونالد ترامب في هبوط حاد في قيمتها، في إطار صراع دولي وإقليمي تحكمه مصالح واعتبارات معقدة. لهؤلاء المتطوعين لشن حروب مطاردة الساحرات في كل مرة بدا لهم فيها أن بإمكانهم إسداء خدمة يأملون في العثور على زبون لها في يوم من الأيام، أن يستمتعوا بطلقاتهم المطاطية. لكن النقاش الكبير الذي شهدته شبكات التواصل الاجتماعي، على غرار ما وقع أثناء المحاولة الانقلابية التي ضربت تركيا قبل عامين، يستحق وقفة للتأمل والقراءة. التفسير الوحيد لتفاعل كهذا هو أن ما يحدث في تركيا، على غرار ما يحدث في العراق أو سوريا أو فلسطين أو مصر أو تونس… يصادف شعورا بانتماء مشترك، وتطلعا متقاسما نحو التحرر والنهضة. وإذا كان هناك من يتعمّد إسقاط الطائرات في قراءات «بوليسية» بالمعنى السلبي للكلمة، فلا بأس في التنبيه إلى أن تركيا ليست هي أردوغان، وإلا لما سارعت أحزاب المعارضة وأبرز خصوم حزب العدالة والتنمية التركي إلى إعلان الاصطفاف إلى جانب مواقف تركيا وخياراتها السياسية والاقتصادية. ولمن يصرون على الاصطياد في الماء العكر، نذكّر بأن تركيا حرصت، قبل أيام قليلة من تفجّر أزمتها مع ترامب، على «تسريب» حرصها الخاص على استثناء جبهة البوليساريو من الدعوات التي وجهتها إلى أعضاء الاتحاد الإفريقي للمشاركة في منتدى للأعمال في اسطنبول. أصحاب القراءات السطحية والمواقف «الخفيفة» نسوا أن الملك حمل متاعه وأثاثه، قبل أربع سنوات، وحلّ رفقة أسرته ضيفا على أردوغان، في وقت كانت فيه المنطقة العربية تعيش ذروة ثورتها المضادة للمسارات الديمقراطية، رافعة ذريعة التصدي للإخوان. بعض المتهافتين لا ينتبهون إلى أن رئيس مجلس النواب، الحبيب المالكي، انتقل قبل أيام إلى تركيا لتمثيل الملك في مراسيم تنصيب أردوغان رئيسا كامل السلطات على تركيا، وأن مندوبية المقاومة وقدماء المحاربين نظمت قبل أسبوعين ندوة دولية استمرت يومين، بالقاعة الكبرى للمكتبة الوطنية، لنفض الغبار عن التاريخ المشترك المغربي التركي. هناك من يصرّ على جرّنا إلى نقاشات هابطة وحسابات صغيرة، متوهّما أن المغرب، مجتمعا ودولة، سيحبس نفسه داخل خندقه الإيديولوجي أو المصلحي الضيّق، فيما الندوة الدولية التي نظمتها مندوبية مصطفى الكثيري، أيها السادة، (ومن لا يعرف موقع هذه المؤسسة ودلالتها الرسمية مدعو إلى محو الأمية)، جاءت لتقول، على لسان باحثين وأكاديميين ودبلوماسيين، إن المغرب وتركيا كانا ضحية لوقيعة تاريخية ورثاها عن فترة الهيمنة الاستعمارية الأوربية. مدبرو هذه الوقيعة لا يريدون لذاكرة المغربي والتركي أن تحتفظ بأكثر من «تمرّد» المغرب على الخلافة العثمانية التي «وحدت» المسلمين، وأن سلطانا مغربيا قتل على يد الأتراك وحمل رأسه إلى اسطنبول. حراس الوقيعة اليوم لا يريدون أن يسمع أحد بالدور الحاسم الذي لعبه الجيش التركي إلى جانب المغاربة في معركة وادي المخازن ضد المملكتين البرتغالية والإسبانية، ولا بعشرات الحروب التي خاضها مغاربة «الجهاد البحري» إلى جانب العثمانيين. أصحاب الحسابات الصغيرة يتوهّمون أن فزاعة «التنظيم العالمي للإخوان» تكفي لكتم أصوات تشير إلى أن دولة تقاسمنا الانتماء الثقافي تتحدى قيود النظام العالمي القائم، وتشق طريق النهضة الحضارية والديمقراطية. تركيا لم تتحوّل بعد إلى جنة للحريات، ولا إلى واحة للديمقراطية المثالية، لكنّها ليست مملكة للشياطين. كفانا تحملا لوقيعة جعلتنا نحن وأشقاءنا الجزائريين نُختزل في نظر العالم في «جوج بغال». والمغرب الذي حمى سيادته أمام سلاطين الأستانة في زمن كانوا فيه ملوك الدنيا، لن يختل توازنه اليوم إن هو اختار طريق علاقات تعاون براغماتي ومتكافئ مع تركيا الناهضة. وحدهم محميو بقايا الفرانكفونية والمتمترسون خلف رسوم جمركية مجحفة ضد المنتجات التركية، يخشون انكشاف جشعهم ومدى استغفالهم للمغاربة. أما المتطوعون للسخرة لدى هؤلاء، فلا يرقون إلى مرتبة «بوستانجي» يشذّب الأشجار في حدائق أسيادهم، أو ربما هم مصابون بأعراض مرض جديد اسمه «التركي فوبيا».