يعتبر الباحث في الثقافة الأمازيغية، الدكتور عمر أمرير، اختيار الكتابة عن السوسيين في الدارالبيضاء، ليس «نزعة» تحصر العصامية في المنحدرين منه، وتنفيها عن غيرهم من إخوانهم في كل ربوع المغرب. قصة هذا الكتاب كما يرويها الباحث أمرير، هي تحفيز لذاكرته في الدارالبيضاء على امتداد حوالي 40 سنة من مسار حياته فيها. منذ زمن طفولته، حيث سافر به والده – رحمه الله- من سوس، للدراسة فيها،عندما بدأ والده ممارسة التجارة مع شقيقه.منذ ذلك الزمن وإلى اليوم، سيجد الدكتور عمر أمرير في موضوع الكتابة أن من بين ما سجله شريط ذكرياته، أسماء لسوسيين مسلمين ويهود، انطلقوا من الصفر في ميادينهم، معتمدين على إمكانياتهم الذاتية، ومواهبهم الشخصية. وبلغوا أوج تفوقهم في حياتهم بتجارب إنسانية عميقة. خلال الوقت الذي تأكد استقرار هذا الشاب في وظيفته بتلك المدينة، وأنه صار بيضاويا – وهو المولود في تونس والمنحدر من سوس- وفي الوقت الذي صار فيه والده الأمازيغي يعرف في تارودانتبالتونسي لدراسته في تونس. في هذا الوقت سيبدأ تغيير النداء على محمد، المعروف ب"بلحسن" في الدارالبيضاء، فينادى عليه بالروداني أحيانا باعتبار مستقر عائلته، أو بالتونسي أحيانا أخرى، باعتبار مسقط رأسه كما سيعرف حتى ب"العفاني" نسبة إلى عفان. وقفنا عند هذه الجزئية لأن الاستقرار المهني في الوظيفة، أتاح لهذا الشاب المتخصص في الاقتصاد فرصة أبان فيها عن عناية كبيرة بموهبتين: المطالعة والرياضة. وسوف نفصل في كل نقطة من هاتين النقطتين لأنهما اللتان طبعتا حياة صاحب الترجمة. المطالعة كان لمحمد بلحسن عادة يلازمها، وهي أن لا تفارق يداه الكتاب، بل خص لكل مكان ولكل وقت نوعا معنيا من القراءة. عرف عند المثقفين من أصدقائه بسبقه إلى اقتناء جديد الإصدارات بالفرنسية، في مختلف المعارف والفنون. والغريب في عادة مطالعته ليس كونه بمجرد ما يقتني كتابا لا يضعه من يده حتى يأتي على قراءة ما بين دفتيه مهما كانت ضخامته. بل الغريب أكثر هو كونه بمجرد ما ينهي قراءة ما في يده. يضعه حيثما أنهاه، ولن يحتفظ به، ولن يعود إليه. في هذا الإطار، يحكي أخوه الطبيب الشهير البروفيسور عبدالقادر التونسي أنه رافقه يوما من مدينة تارودانت إلى مدينة أكادير قبيل زلزال سنة 1960 بشهر تقريبا، واضطر للمبيت معا في فندق لم يجدا فيه سوى غرفة لشخصين بسريرين منفصلين. قبل وصولهما إلى الفندق المقصود، استوقفت "واجهة مكتبة" الأب جيكو، فوقف يتأمل كتابا فرنسيا ضخما صدر حديثا، عرض بعناية في صدارة الواجهة الزجاجية للمكتبة، وكان ثمنه المكتوب بأناقة غاليا للغاية. في لمح البصر، دخل الأب جيكو المكتبة طالبا ذلك الكتاب المعروض. وبمجرد ما أدى ثمنه المرتفع انهمك في قراءته، ومنذ تلك اللحظة لم يرفع عيناه عن أسطره إلا ليتبين موطئ قدميه على هدي خطو أخيه في اتجاه الفندق. حتى في وقت تناول العشاء هيأ حيزا فوق المائدة يكفي لبقاء الكتاب مفتوحا بشكل يساعده على متابعة القراءة بطريقة تدل على أن للأب جيكو مراس إيقاعي يسري في دمه، يضبط بشكل لا شعوري نظرات القراءة مع حركات أصابعه في الغمس والمضغ. لما التحقا بغرفة الفندق، واستلقى كل واحد من الأخوين فوق سريره، ضغط عبدالقادر على زر إطفاء مصباح سريره، واستسلم للنوم. في حوالي الساعة الثالثة صباحا، استيقظ عبدالقادر، وفوجئ بالأب جيكو مازال يتابع قراءة الكتاب الضخم، وتأكد أنه لم ينم حتى أنهى قراءة كل صفحاته. فوق هذا لم يستغرب عبدالقادر التونسي عندما ترك الأب جيكو ذلك الكتاب في غرفة الفندق بعد ما أتم قراءته واستوعب محتواه. لم يستغرب عبدالقادر ذلك لأن عادة أخيه أن يتخلى عن المقروء بمجرد إنهاء قراءته. نعم، لو جمع الأب جيكو الكتب والجرائد والدوريات والمجلات التي قرأها لكانت تشكل مكتبة ضخمة. انعكست نتائج مطالعاته على تكوينه الموسوعي، وموهبته الفائقة في الكتابة سواء في الإبداع الشعري بالفرنسية، أو في تحاليله السياسية أو الرياضية، مع إجماع كل قرائه على تفوقه في المقالات الرياضية تلك التي يبلور بها زاده الرياضي، الذي سبق أن تزود به من الميادين الفرنسية. وكان الفرنسيون يتعجبون من فصاحته البديعة في لغتهم".