إن كانت هناك خاصية ميّزت بشكل كبير رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، خلال ال18 شهرا التي قضاها على رأس الحكومة حتى الآن (فترة تعادل مدة التجنيد الإجباري بالمغرب في نظامه السابق)، فهي كونه رجلا غير قابل للتوقّع، imprévisible، كما يقول أصدقاؤنا الفرنسيون. فطيلة فترة البلوكاج الحكومي التي عاشها عبد الإله بنكيران، كان هذا الأخير حريصا على اصطحاب العثماني، وإجلاسه إلى جانبه في جل الاستقبالات واللقاءات التي عرفتها الشهور الستة الشهيرة، لكنه لم يتوقّع أبدا ما سيحدث على يد رفيقه بعد وصول الأزمة إلى لحظة انفجارها من خلال الإعفاء الملكي. لا أقصد هنا أن بنكيران لم يكن يتوقع إزاحته وتعيين قيادي آخر من حزبه، فالعثماني كان دائما على رأس المرشحين، بل إن ما باغته وألغى كل حساباته، هو أن يعود إليه العثماني بعيد تعيينه، مخبرا إياه بأنه قبل الشروط التي ظل بنكيران يرفضها في مرحلة البلوكاج، والعثماني إلى جانبه يوزع الابتسامات. القصة نفسها ستتكرّر هذا الأسبوع مع صديق وحليف آخر، هو نبيل بنعبد لله، الذي يعتبر، دون شك، جزءا من التركة التي خلّفها بنكيران للعثماني، لكن هذا الأخير لم «يقصّر» منذ تعيينه في كيل المديح لحلفاء حزبه السياسيين القادمين من المعسكر الشيوعي السابق. وحتى عندما كانت «التسريبات» تنسب إليه رأيا مفاده أن حزب الكتاب مجرد عبء سياسي فوق ظهر المصباح، وأنه وحده المستفيد من التحالف القائم بينهما، كان العثماني يسارع إلى الخروج ونفي ذلك. بل إن الدكتور النفساني سارع إلى زيارة مجاملة خاصة لمقر «الرفاق» في اجتماع مشترك لقيادتي الحزبين، عشية انعقاد مؤتمر حزب الكتاب. الخطوة قرأ فيها الجميع حينها دعما من العثماني لنبيل بنعبد لله، المقبل على انتزاع ولاية ثالثة على رأس حزبه، وهو ما يعني ضمانة لاستقرار التحالف، وبالتالي، الأغلبية الحكومية. حينها استقبل رفاق نبيل العثماني ب«ملف مطلبي»، على رأسه إنهاء الخلاف بين كاتبة الدولة في الماء، شرفات أفيلال، والوزير الوصي عليها، عبد القادر اعمارة. «وجعلنا من الماء كل شيء حي...»، قال بنعبد لله في كلمته الافتتاحية التي جرت أمام الصحافة خلال ذلك اللقاء، مضيفا، في إشارة إلى العثماني: «وراه عارفني علاش ذكرت شرفات أفيلال بالضبط». لم يكن بنعبد لله يتصوّر حينها أنه سيعلم بقرار إعفاء أفيلال عبر بلاغ رسمي بثه التلفزيون. أسلوب رئيس الحكومة في تدبير علاقاته يذكّر بحكمة أفغانية، تشير إلى الحدود التي ينبغي أن يبقيها المرء في أي صداقة. هذه الحكمة تجسدها قصة شيخ بلغ مرتبة عالية في فنون القتال لا يضاهيه فيها أحد. هذا الشيخ كان له رفيق رباه على يديه ولقّنه فنون القتال، إلا أن الشيخ احتفظ بورقة احتياط رغم السنوات الطويلة من الرفقة والمعاشرة التي جمعته بصديقه الشاب اليافع. هذا الأخير كان ينظر إلى نفسه، بعد تدربّه المتكرر على الحركات التي لقّنه الشيخ إياها، على أنه بات أفضل من أستاذه، وبالتالي، يستحق انتزاع الاعتراف بكونه بات أفضل مقاتل. رغبة نقلها المقاتل الشاب إلى ملك البلاد، معتبرا أن جميع التقنيات والحركات التي يتقنها شيخه بات يتحكم فيها كليا، وأنه يتفوق على شيخه بالقوة البدنية وصغر السن، وطالبه، بالتالي، بمنحه صفة المقاتل الأول في المملكة. اقتنع الملك بوجاهة هذه الرغبة، وأمر بتنظيم مباراة بين شيخ المقاتلين وتلميذه، ليعرف الجميع من هو البطل القومي الحقيقي في فنون القتال. اجتمعت الجماهير وعلية القوم في ساحة كبيرة، وانطلقت المباراة بين الشيخ وتلميذه، وسرعان ما وقع هذا الأخير صريعا بسبب استخدام الشيخ الحركة القتالية التي ظل يخفيها عن تلميذه طيلة سنوات الصحبة التي جمعتهما. في قصة الشيخ الأفغاني، كما في قصص سعد الدين العثماني، قد يرى البعض في هذا السلوك دليل غدر واستبطان للخيانة، فيما قد يعتبره البعض دليل حكمة وكياسة. الأمر مرتبط بالموقف من الرجل وزاوية النظر إليه. لكن الفرق بين الرجلين، أن الشيخ الأفغاني أخفى حركة قتالية دافع بها عن نفسه في لحظة «انقلاب»، فيما العثماني يجرّ الممارسة السياسية والتدبيرية إلى كهف العتمة، حيث الخفافيش والعقارب، ولا يمكنه تبرير «حركاته» السرية بالدفاع المشروع عن النفس.