وأما جرادة فلا بواكي لها، فلا الحكومة وفت بوعودها ذات سفريات لممثيلها ممن أغدقوا كلام الليل الذي يمحوه النهار على ساكنتها، ولا الحناجر التي صدحت بالتضامن، و”الهاشتاغات” التي أعلنت: “كلنا جرادة' ظلت إلى جنب أبنائها الذين يعانون النسيان والخذلان، ويحسون بالتمييز من جانبين: الدولة، وشبكات التضامن، مع فرق في الأدوات والمقاصد والنيات.. اليوم، يدخل الشاب مصطفى أدعنين يومه العاشر مضربا عن الطعام، لا يطالب أدعنين بغير إطلاق سراحه بعد انتهاء محكوميته، مصطفى الذي كان ينتظر معانقته للحرية، سيجد نفسه ممنوعا منها، والسبب: ملف جنائي آخر متابع فيه بدأت أطوار محاكمته أمس الثلاثاء، الملف الثاني ليس سوى فصل من كوميديا سوداء سواد الفحم الملتصق بالمدينة حياة بئيسة وموتا مهينا.. أدعنين توبع بتهمة صدم نباتات كانت آمنة مطمئنة على جانبي الطريق، لتصبح في تكييف “قانوني” سريالي أشياء مخصصة للنفع العام، وحوكم ابتدائيا بعشرة أشهر جزاء وفاقا لما اقترفه من مجزرة “نباتية”، ليخفض الحكم استئنافيا لستة أشهر سجنا نافذة، النباتات إياها مقدسة، وتتمتع بالحصانة القانونية والامتياز القضائي ربما، يومها خرجت النيابة العامة لتنفي أن يكون لاعتقال أدعنين علاقة باحتجاجات جرادة، وأن لا داعي لتسييس الملف، فالملف نباتي لا سياسي، لكن اليوم، وبعد استنفاد أدعنين لعقوبته، التي هي معادل موضوعي للاعتذار وجبر الضرر الجماعي للنباتات، يجد نفسه في قفص الاتهام مرة أخرى بسبب أحداث وقعت وهو معتقل.. أدعنين الذي يعيش بكلية واحدة أضحى اليوم أكبر مهدد للسلم الاجتماعي والبيئي بالبلد، إنه قاتل النباتات طورا، ومثير الفتن أطوارا.. اشنقوه إذن، إلا تفعلوا، تكن فتنة عظيمة وعذاب أليم.. في هذه المدينة التي تصحو وتنام على جبال من الفقر والمرض والبطالة، في هذه المدينة المتروكة لقدرها القاتل، كان طفل اسمه “عبدالمولى ازعيقر” يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم، لم يكن عبد المولى يدرك أن ابن جرادة لا يحق له أن يحلم، أقصى ما يمكن أن يدركه هو تعلم تجنب الموت بمهارة، ففي جرادة إن لم تمت بالسيليكوز، أو مطمورا في الساندريات، فانتظر موتا بطيئا باليأس والفقر والنسيان. عبد المولى، الذي تعلم كيف يراوغ أقرانه، لم تسعفه تلك المهارة “الرياضية” في مراوغة عربات القوات العمومية التي كانت تطارد المواطنين بسرعة جنونية، سرعة قاتلة مع سبق الإصرار والترصد، ما وثقته الكاميرات يومها، كان دليلا قاطعا أننا كنا أمام مشروع عمليات دهس متعمدة، هل بفعل أوامر من “الفوق” أم بفعل اجتهاد أرعن للأدوات المنفذة؟ علم ذلك في تحقيق لم يفتح، أو فتح ليغلق، الحقيقة الوحيدة الساطعة أن عبدالمولى ازعيقر ضحية عملية الدهس تلك، يصارع في كل ثانية آلاما جسدية مبرحة، وآلاما نفسية غير قابلة للعلاج، وهو يرى مستقبله يتحطم بسبب قرار أخرق وتنفيذ أرعن.. أصبح عبدالمولى مشلولا، لا يغادر سريره.. وطبعا، وكعادته، خرج السيد وزير الدولة “للحريات وحقوق الإنسان” ليقوم بدور “فرشاة الأسنان” في فم مليء بآثار الانتهاكات العالقة بين أسنان السلطة، ولم يجد من تبرير سوى القول إن الفتى كان مشروع “كاميكاز”، وإن عربات القوات العمومية كانت تحاول تجنب الاصطدام بالناس، وهي بريئة من الدهس براءة الحمل من تكدير النهر، تبرير لا يصمد مع المشاهد التي وثقتها كاميرات الهواتف المحمولة التي “نقلت” عنفا غير مبرر للقوات العمومية للعالم، سوى لعين الرميد التي لا تبصر إلا من نظارات خارقة ترى ما لا يراه الناس، نظارات صنعت على هدي: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم سوى سبل الرشاد.. هكذا كان لسان الظلم دوما: قلب للوقائع بعد قلب المعاطف. حين انتفضت جرادة بعد مقتل أخوين في بئر عشوائية، يحكي عشوائية تدبير كارثة إغلاق منجم جرادة، جاءهم رجل يسعى من أقصى الغرب، اسمه: عزيز الرباح، وبعد أن بسمل وحوقل، شكر حراك المدينة، وأثنى على احتجاجاته الوطنية، وكان يلمز بخبث السياسي إلى حراك الحسيمة، جاء ليقول لهم إن الحاكمين يشدون على الأيادي التي تحتج رافعة العلم الوطني والأصوات الهادرة بالنشيد الوطني، فلكي تحتج يجب أن تثبت ولاءك للوطن والحاكم وقسم المسيرة، أما الدولة فهي معفية من واجب الولاء للشعب.. في جرادةوالحسيمة وكل خرائط الفقر كانت الاحتجاجات بكل مأساويتها تحمل جنين الأمل في إمكان وطن ديمقراطي متضامن، وفجأة تراجعت الاحتجاجات، لتخلفها قوارب الموت.. “الهربة” لمن استطاع سبيلا.. انتهى قوس الأمل.