اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تركيا، إن تأكد أنه اختطاف، عمل إجرامي، بصرف النظر عن الجهة التي اقترفته. أما إذا تأكد أن الاختطاف كانت وراءه دولة، فسيدعم أطروحة استفحال نموذج الدولة المارقة، بتحديد نعوم تشومسكي، أو دولة المافيا. التعبير الأخير استعمله أحد قضاة النيابة العامة في إسبانيا أثناء محاكمة رجال مافيا روس لهم ارتباطات سياسية، بقوله إن روسيا الحديثة هي «دولة المافيا». كيف، إذن، يختفي صحافي أعزل لا عداوات له، إلا إذا اعتبرنا انتقاده السياسات المتبعة في بلده الأصلي مدعاة للعداوة. الاتهامات التي وجهتها خطيبة خاشقجي ومسؤولون أتراك إلى السعودية، لا يمكن إثباتها ولا نفيها، وإن كان ذكر الرياض قد تكرر سابقا في حوادث اختطاف ومحاولة اختطاف معارضين سعوديين من العواصم العربية والعالمية. ولو تأكدت مزاعم تورط الاستخبارات السعودية في اختطاف جمال خاشقجي، فلن يزيد ذلك إلا في «مأزقة» نظام غارق في مشاكل داخلية بسبب الاختناق السياسي والحقوقي وتداعيات الحملة على الفساد، وأخرى خارجية ترتبت على التدخل السعودي في عدد من الصراعات الإقليمية. لقد تابع الجميع، قبل أيام، كيف أن البلد الذي قاد عاصفة الحزم، لم يتعاط بحزم مع التصريحات المهينة لملكه من طرف الرئيس الأمريكي. لذلك، فإن فتح جبهة أخرى مع تركيا سيكون مغامرة غير محسوبة العواقب بالنسبة إلى بلد قال ترامب إن ملكه غير قادر على البقاء في الحكم أسبوعين دون حماية الجيش الأمريكي. ترامب، طبعا، كان يشير إلى التهديد الإيراني، المفترض، للسعودية. فهل أصبح اتخاذ القرار داخل القيادة السعودية محكوما بردود أفعال انفعالية، وبات كل هم أهل الحل والعقد الجدد هو إخراس صوت إعلامي يكتب مقالات نقدية في «الواشنطن بوست»، ويتحدث لقنوات لا تعجبهم، دون احتساب كلفة هذا القرار؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن أقل ما يمكن أن يقال عن متخذيه هو أنهم حكام خفاف. لقد حاول الإعلام السعودي تجنب السقوط في القاعدة الكريمونولوجية: «يكاد المريب يقول خذوني»، وتفادى الحديث عن اختفاء خاشقجي. لكن رب عذر أكبر من زلة، إذ كيف يتجاهل إعلام دولة خبرا هو حديث كل وسائل الإعلام في العالم، خصوصا أن هذا الشخص مواطن سعودي؟ كيف، إذن، أصبح الصحافي جمال خاشقجي مزعجا للنظام السعودي، رغم أنه صوت معتدل، والدليل أنه حتى وهو لاجئ في أمريكا لم يتوقف عن القول: «أنا من أشد المؤيدين للأسرة المالكة، لأنها ضرورية للحفاظ على وحدة البلاد»؟ إن مشكل النظام السعودي الجديد هو أنه لم يعد يريد أن يسمع غير صوت التصفيق، لذلك ضاق ذرعا بصحافي مثل خاشقجي انتقد، بكل احترام، حملة محاربة الفساد التي قادها محمد بن سلمان، وقال له إن الحملة هي أمر صحيح، لكنه طبق بطريقة خاطئة، وإن على ولي العهد أن يفرق بين أموال الأمراء وأموال الشركات، وإن القطاع الخاص السعودي مصاب بحالة من الذعر والهلع جراء ما يحدث في المملكة، وإن الأسرة الحاكمة هي أصل الفساد لأن الأمراء يتدخلون في العقود ويحصلون على المليارات منها، وإن السعودية تعرف فسادا آخر يتعلق بهدر الأموال يقدر بأكثر من 100 مليار دولار في السنة تُنفق على أمور من مثل اللوحات الفنية… إن مجرد إطلاق حملة ضد الفساد الاقتصادي، هو في حد ذاته أمر ينم عن وجود فساد واختلال في السلط؛ فلو أن آليات المحاسبة كانت تشتغل بشكل سليم، ولو أن القضاء تحرك لمعالجة حالة بحالة، لما تراكم الفساد واحتاج إلى حملة. لقد عرف المغرب، في 1996، حملة شبيهة إلى حد ما بالحملة السعودية، من حيث الأهداف والنتائج، بعدما عرف البلد أكبر موجة لتهريب الأموال إلى الخارج من قبل رجال أعمال مغاربة، حيث أطلق الحسن الثاني حملة التطهير التي أتت على الأخضر واليابس، وبدلا من أن تنعش مالية الدولة، أرعبت المستثمرين، لكنها لم ترعب الصحافة التي كانت تعيش أزهى فتراتها، حيث واجهت الحملة بنفس القوة التي واجهها بها السياسيون، حتى إن محمد زيان، الذي كان حينها وزيرا لحقوق الإنسان، استقال من منصبه الحكومي على الهواء مباشرة، احتجاجا على التجاوزات التي عرفتها الحملة. أتمنى ألا تكون في السعودية يد هوجاء هي التي امتدت إلى جمال خاشقجي، حتى يعود إلى قرائه صوتا قويا معتدلا، فقريبا ستعرف المملكة كم هي بحاجة إلى أمثال هذا الصحافي الحر. دروس التاريخ تقول: من يطبل لك وأنت قوي سيطبل لغيرك عندما تصبح ضعيفا.