على التوالي، قدم المسؤولون القضائيون الكبار في المغرب صورة لامعة عن تطور التجربة القضائية في البلاد، في مؤتمر دولي يعقد حاليا بمراكش، في مسعى لتسويق “الإصلاحات” الجديدة التي تعرف انتقادات كثيرة. وفي هذا المؤتمر الدولي للقضاة في نسخته ال61، والذي يشارك فيه قضاة رفيعي المستوى ينتمون لأكثر من 87 دولة من مختلف دول العالم، تناول فيه المسؤولون المغاربة على إبراز التجربة المغربية في القضاء وخصائصها. مصطفى فارس، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للقضاء، أبرز أن عمل الإطار القضائي الدولي عرف خلال عشر سنوات، تطورا كبيرا وتنوعا في أنشطته، كما ازداد أعضاؤه بمختلف القارات، وهي أيضا عشر سنوات عرفت فيها السلطة القضائية بالمغرب تحولات عميقة وإصلاحات كبرى جعلت منها نموذجا متفردا وتجربة متميزة في مجال الاستقلال. وهو استقلال يضمن الفصل الواضح والتوازن الواجب والتعاون المطلوب بين كل السلط. مذكرا بأنه ومنذ شهور قليلة خلت، احتفل المغرب بالذكرى الأولى لتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية في حلته الجديدة بعد دستور 2011. مؤكدا في كلمته الافتتاحية للمؤتمر أن المجلس الأعلى يتميز بتركيبة متنوعة منفتحة واختصاصات متعددة وأدوار مجتمعية كبرى ذات أبعاد حقوقية وقانونية متميزة وبروح إصلاحية عميقة، وبتوليفة موحدة راعت التمثيلية النسوية بانتخاب 3 قاضيات يمثلن زملاءهن قضاة محاكم الابتدائية والاستئنافية، وبتنوع للأجيال القضائية، مشيرا إلى أن يوم 6 أبريل 2017 كان محطة لتتويج خيارات بلد يتجه نحو المستقبل بخطى ثابتة ورؤية واضحة وإرادة صادقة، من خلال مؤسسة دستورية تعبر عن سلطة قضائية مستقلة ملزمة، ليس فقط بتدبير الوضعية الفردية للقضاة وتحقيق كافة الضمانات لهم طيلة مسارهم المهني، ولكن من أجل تكريس ممارسات فضلى كسلطة موكول لها ضمان الحقوق والحريات وتكريس الأمن القضائي وتحقيق التطبيق العادل للقانون. وهي سنة تأسيسية شهدت تسليم رئاسة النيابة العامة لمؤسسة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، كما أحدثت خلالها تجربة هامة تتجسد في إنشاء هيئة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل للتدبير المشترك وتنسيق الجهود وتيسير عمل الجميع خدمة للعدالة والمتقاضين. وأضاف فارس أنه يجب أن يتأكد الجميع أن السلطة القضائية كانت وستبقى دائما سلطة معركتها الحقيقية هي سمو الحق وسيادة القانون وصون المكتسبات ومكافحة الفساد بكل صوره وأشكاله وضمان الحقوق والحريات، ومدخلها الأساسي للنجاح هو تغيير العقليات لتستوعب المستجدات والتحلي بالموضوعية والانكباب على العمل بروح الفريق كل من موقعه ومسؤولياته. النباوي والنيابة العامة من جانبه، أوضح محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، أن أشغال هذا المؤتمر العالمي تعد فرصة سانحة لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف المشاركين، وكذا لمناقشة التحديات التي تواجهها العدالة، والقضايا المشتركة بين القضاة في مختلف دول العالم. وهي مناسبة كذلك للترحيب بالمشاركين الذين جاؤوا من مختلف قارات العالم، مضيفا أن عقد هذا المؤتمر يأتي متزامنا مع مرور سنة كاملة على استقلال قضاء النيابة العامة بالمغرب عن السلطة التنفيذية. وأوضح عبد النباوي أن الدساتير المغربية المتعاقبة، تنص جميعها على استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكن تطبيق هذا المقتضى الدستوري اكتفى بمنع تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في أحكام القضاة، دون أن يحول وقيام وزير العدل – وهو عضو بالسلطة التنفيذية – بمهام أساسية في المشهد القضائي. فهو الذي كان يرأس المجلس الأعلى للقضاء، وهو مؤسسة دستورية كان موكولا لها أمر تدبير الوضعية المهنية للقضاة، منذ تعيينهم إلى نهاية مهامهم، مروراً بتدبير الوضعيات المهنية الأخرى كالترقية والانتقال والتأديب. كما أن وزير العدل كان يعتبر بمثابة الرئيس الأعلى لقضاة النيابة العامة يملك سلطة توجيه مهامهم وإعطائهم أوامر وتعليمات، كانوا ملزمين قانونا بتنفيذها. ولذلك فإن القضاء بفرعيه قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة قبل دستور 2011، كان يعتبر مجرد “مهمة” تملك السلطة التنفيذية صلاحيات هامة وأساسية في تسييرها وتدبير شؤون أعضائها، ولم يكن سلطة من سلطات الدولة. وأفاد عبد النباوي في كلمته في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، أن هذا الوضع كان محل نقاشات مجتمعية على كافة الأصعدة وكل مستويات الدولة، حتى أصبح قراراً من قرارات الدولة التي يتوقف عليها إصلاح المنظومة القضائية بالبلاد. وأضاف رئيس النيابة العامة أنه لئن كان الدستور ثم القانون المغربي قد حقق للقضاء الاستقلال المؤسساتي، وجعله سلطة دستورية قائمة الذات، مستقلة كل الاستقلال عن البرلمان والحكومة، فإن هذا الاستقلال لا يحول دون تعاون السلطات في إطار التوازن، بحيث تتعاون سلطات الدولة الثلاث لتنفيذ السياسات العامة للدولة، وتؤدي كل سلطة واجبها المنوط بها دستوريا بما يكفل سلامة تدبير الشأن العام، في الحدود المرسومة بمقتضى القوانين، وفي مقدمتها القانون الأساسي للمملكة الذي يضمن استقلال السلطة القضائية. مضيفا أنه ومن جِهة أخرى، فإن الدستور لم يكتف بضمان الاستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكنه أوجد كذلك الآليات المناسبة لضمان الاستقلال الذاتي للقضاة، حيث منع كل تدخل في أحكام القضاة أو التأثير عليهم، ووفر لهم حصانة من النقل والعزل. كما حدد القانون التنظيمي معايير وشروط لتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومكنهم من مخاطبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية مباشرة كلما كان استقلالهم محل تهديد. وجعل المجلسَ مسؤولاً عن حماية هذا الاستقلال، الذي نص الدستور على أن الملك هو رئيس المجلس. وفصل المتحدث على أن هذه الحماية تمتد لجميع القضاة بمن فيهم قضاة النيابة العامة، رغم انتمائهم لتسلسل رئاسي يملك فيه كل رئيس السلطة على أعمال مرؤوسيه، ويحق له إصدار تعليمات وتوجيهات إليهم. أوجار والإدارة العادية قال محمد أوجار، وزير العدل، بمناسبة افتتاح أشغال المؤتمر العالمي للقضاة، إن المغرب فتح مجموعة من أوراش البناء والنماء، تعددت مجالاتها وتنوعت سبلها، لكن ظل هدفها واحدا موحدا وهو خدمة الإنسان وصون كرامته والارتقاء في خدمته وتوفير سبل العيش الكريم له. مضيفا أن مظاهر الإصلاح تعددت بين ما هو سياسي يترجمه صدور دستور جديد مكن من خلق طفرة نوعية في الحياة السياسية غير مسبوقة، وأتاح للمغرب العبور إلى باحة الأمن والاستقرار في خضم محيط إقليمي ودولي يعج بالاضطراب، وهو دستور ارتقى بالتجربة المغربية في مجال الديموقراطية من خلال اعتماد خيار الجهوية المتقدمة واللامركزية، وتنظيم انتخابات حرة وشفافة مكنت من تداول الأحزاب السياسية على قيادة الحكومات المغربية، وعزز مكانة المرأة في المشهد السياسي المغربي. وتابع وزير العدل حديثه حول مظاهر الإصلاح، أن منها ما هو حقوقي يكرس الخيار الوطني في مجال حماية حقوق الإنسان، والنهوض بها كمبدأ دستوري يواصل المغرب من خلالها جهوده لتعزيز التجربة المغربية في هذا المجال، وذلك انطلاقا من ظهائر الحريات، وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة ودسترة توصياتها، وتقرير الخمسينية، ودسترة هيئآت الحكامة وحقوق الإنسان، واستكمال الانخراط في منظومة حقوق الإنسان الدولية، مع انفتاح أكبر على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحقوق الفئات. وأضاف وزير العدل في كلمته أمام قضاة العالم أن أوراش الإصلاح الكبرى، لا يمكنها أن تؤتي أكلها ما لم يواكبها إصلاح هيكلي ومؤسساتي عميق في منظومة العدالة، وما لم تؤطرها ترسانة تشريعية يتحقق بتنزيلها مبدأ الحكامة في التدبير والنجاعة في الأداء، وأن أول خطوة في طريق النجاح هي تعزيز ثقة المواطن في قضائه الوطني، مضيفا أن المغرب قطع شوطا مهما في هذا المسار، تمكن خلاله من تنزيل جملة من المبادئ الدستورية، التي تم التصيص عليها في الدستور، وعلى رأسها استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كهيئة دستورية مستقلة ومتنوعة التركيب، تتولى السهر على تطبيق الضمانات المخولة للقضاة، وتدبير مسارهم المهني، ونصت بوضوح على أن التدخل في القضاء أو محاولة التأثير عليه، يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.