لا يمكن لمن يولي قدرا، ولو ضئيلا، من الانشغال بالمسارات الكبرى التي تحكم مصير أمتنا، ألا تكون المحاضرة، التي ألقاها مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، جون بولتون، يوم الخميس الماضي، قد استأثرت باهتمامه. الرجل الذي خصص جلسة رسمية وعلنية حضرها عشرات الدبلوماسيين، الأفارقة على الخصوص، كشف النقاب عن استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه إفريقيا. الرجل، الذي كان يقف خلف المبعوث الأممي السابق، جيمس بيكر، وأشرف على هندسة مخططه الشهير الذي كان يراد له أن ينتهي بتنظيم استفتاء على غير إرادة المغاربة، أخبرنا، الخميس الماضي، بمقدار ما يحمله من حسرة على عدم تنفيذ ذلك المخطط، وعلى مرور 27 سنة على وجود المينورسو في الصحراء دون نتيجة، وهو القادم الآن للامساك بزمام الأمن القومي الأمريكي. وإذا كان بولتون قد انتفض واستنكر، وهو المسؤول الأمريكي الذي لا يعرف من منطقة شمال إفريقيا، أو لا يهمه بالأحرى، إلا بمقدار ما يرده من تقارير وزير الخزانة وتجار الأسلحة وشركات النفط والغاز من أرقام وإحصاءات وتوقعات؛ كم تكفينا نحن من «لطميات» ونحن من يدفع ثمن هذا النزاع من تنميتنا ومستقبل أبنائنا لنملأ جيوب محترفي اللوبيينغ والسماسرة المقنعين في جبة دبلوماسيين وتجار السلاح؟! لا بد أن نسجّل، أولا، وجود ارتباط مباشر بين شخص جون بولتون وملف الصحراء، فأول منعطف في مسار الملف داخل مجلس الأمن الدولي، سجل بعد أيام قليلة من تعيينه مستشارا للأمن القومي متم مارس الماضي، أي حين جاء قرار أبريل الماضي مقلصا مدة ولاية المينورسو من عام كامل إلى ستة أشهر. قلل البعض حينها من أهمية إتيان ترامب ببولتون، مثلما اعتبروا تقليص مدة ولاية البعثة للمرة الأولى مجرد خطوة تقنية. لسوء حظ هؤلاء أن جلسة مجلس الأمن للتصويت على القرارات تتسم بالعلنية، وهو ما سمح لنا، أواخر أكتوبر الماضي، بتتبع كلمة الممثل الأمريكي في مجلس الأمن الدولي، وهو يضيف إلى تصلب موقف بلاده أمام مطالب المغرب وحليفته فرنسا، اللذين طالبا بتجديد ولاية المينورسو سنة كاملة، خطابا هو أقرب إلى الوعيد، مؤكدا أن أمريكا ستراقب تطورات الملف عن كثب. أمريكا تخبرنا الآن رسميا بأنها آتية إلى إفريقيا لمحاربة الصين وروسيا، متجاوزة ضمنيا النفوذ التقليدي لحلفائها الأوروبيين. بولتون، وككثير من «المبشرين» الأوروبيين الذين مهدوا للاستعمار قبل أكثر من قرنين، يعد الأفارقة بالرخاء والتنمية، و«تحرير» رقابهم من الفساد والتسلط اللذين «تنشرهما» الصين وروسيا. نحن، عمليا، أمام مخطط «مارشال» جديد ستخص به أمريكا القارة الإفريقية هذه المرة، بعدما وصل مخططها السابق في أوروبا إلى أقصى مداه. واشنطن آتية لإنهاء غيابها الميداني عن المجال الإفريقي، وتحويل القارة إلى فضاء مفتوح بالمعنى الليبرالي، والذي يشمل إنهاء النزاعات السياسية وفرض الحد الأدنى من الديمقراطية والحريات، ليس حبا في الشعوب الإفريقية، بل لأن منطق السوق، الذي يتطلب الرأسمال الأمريكي استثماره، يستلزم ذلك. هل نحن في ورطة؟ ليس تماما، والواقعية تحتم الإقرار بأن المغرب، وعلى الرغم من السلبيات التي قد تمثلها هذه التحولات بالنسبة إليه، أبان عن دهاء طبيعي في نظام سياسي عريق مثل الملكية التي تحكمه. لنتذكر، أولا، كيف أن المغرب قفز برشاقة ليركب القطار الإفريقي منذ سنتين، حين قرر استعادة مقعده داخل الاتحاد الإفريقي. ولنسجل أيضا أن المغرب، ورغم كل الانحرافات والتراجعات التي عرفها في السنوات الأخيرة، رفض الانسياق مع موجة الثورات المضادة التي عرفتها المنطقة العربية، وأبقى على الإسلاميين المتصدرين للمشهد السياسي في الموقع الحكومي، ولو شكليا، كما تبنى موقفا استثنائيا بامتياز من الأزمة الخليجية والحصار المفروض على قطر… في المحصلة، نحن أمام خطر داهم، ويد أمريكية تمتد إلى منطقتنا بهدف تسوية نزاعاتها القديمة باستعجال قد لا يهتم كثيرا بحقوقنا السيادية والتاريخية، لكننا أيضا نمسك بخيط رفيع يقودنا إلى طريق الرجعة، إن نحن أحسنا استثمار معطيات اللحظة بدل تحمّل تبعاتها. واشنطن، وهي تحرث الأرض الإفريقية منذ سنوات تمهيدا لزرع بذور مصادر جديدة لنمو وتوسع شركاتها، حددت نقط ارتكاز تتمثل في دول أطلقت مسارها التنموي والديمقراطي بشكل يؤهلها لقطف ثمار مخطط مارشال المقبل. جنوب إفريقيا وحوض الكونغو ونيجيريا ودول القرن الإفريقي، كإثيوبيا وتنزانيا ورواندا، ودول مجموعة صيدياو في الغرب الإفريقي… كلها منصات جاهزة للانخراط بنجاح في النهضة الموعودة، وحده المغرب العربي بقي خارج التاريخ. وإذا كانت اليد الدولية تمتد اليوم إلى الجسم المغاربي لتنعشه وتحمله على الاندماج القسري ومواكبة منطق التاريخ، فإن الشق الثاني من الوصفة ينبغي ألا يرتهن بهذا التدخل الدولي أو ذاك. مازال المغرب بنظامه السياسي المستقر، وما أبان عنه المجتمع في السنوات الأخيرة من وعي سياسي وطلب كبير على الحرية والتخليق، قادرا على استئناف صعوده الإقليمي والدولي، شريطة التخلي عن مشاريع الهيمنة والإقصاء والاحتكار، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام.