يصدر هذا العدد في اليوم الأخير من العام 2018، ورغم ما يوحي به هذا اليوم من ضرورة جرد الحصيلة، وتسجيل الانطباعات حول سنة منقضية، والآمال بخصوص أخرى آتية، فإن واقع الحال لا يسمح بفرصة كهذه للتأمل والتمني، ويستلزم وقفة خاصة عند معركة هي، في حقيقة الأمر، أم المعارك، وجوهر الصراع الدائر في المغرب، ومآلها سيحدد مصير الكثير من المعارك الأخرى التي تهم الديمقراطية والإنصاف، ومنع سقوط المغرب في قبضة الرأسمال الزاحف على الدولة والمجتمع. فمجلس المنافسة، الذي جرى إنعاشه أخيرا، وجد نفسه، بشكل شبه فوري، أمام قنبلة سوق المحروقات، فإما أن ينجح في نزع فتيلها ونتجنب الأسوأ، وإما أن يتسبّب في تفجيرها، لا قدّر الله. لماذا هي قنبلة؟ لأننا نعيش، منذ تحرير سوق المحروقات، الحيوي والاستراتيجي، على إيقاع شعور جماعي ببسط كارتيل نافذ هيمنته على هذا القطاع، بل وتمكّنه من فرض جشعه على المجتمع والدولة بمؤسساتها وقوانينها. يكفي أن نذكّر بخلاصات التقرير الصادم الذي أفرجت عنه لجنة تقصي الحقائق البرلمانية، خاصة ما علق في الأذهان من رقم مهول يفيد بجني شركات المحروقات 17 مليار درهم دون وجه حق، منذ تحرير السوق عام 2015. ما وقع خلال هذه الفترة هو أن ممثلي الشعب وجدوا أنفسهم، وبعد القدر الكبير من الرقابة الذاتية الذي فرض عليهم بسبب التوازنات السياسية للجنة البرلمانية، تحت وابل من القصف والتبخيس، وحين حاولت الحكومة إنقاذ شرفها السياسي عبر تسقيف أرباح شركات المحروقات، اضطرت إلى التراجع صاغرة، ليكتفي الوزير، لحسن الداودي، بأسلوب المناضل الذي يستنفر الرأي العام، ويضغط كأي مناضل جمعوي بنشر ما يفترض أن تصبح عليه الأسعار، لينتزع بعض التخفيضات. وحين لجأت إحدى الجمعيات الحقوقية إلى النيابة العامة، مسلحة بالتقرير البرلماني، قيل لها إن الأمر من اختصاص مجلس المنافسة. هنا لا بد من وقفة قصيرة لنوضح معها ما يُنتظر من هذه المؤسسة الدستورية. فالأمر لا يتعلق بهيئة استشارية ولا تفاوضية، ولا مؤسسة لإبداء الرأي والاستئناس. مجلس المنافسة، الذي أحياه الملك قبل أيام بتعيين رئيسه الجديد، مؤسسة تقريرية بفضل قانون صدر قبل خمس سنوات، ويحمل، لهواة المراجع، رقم 20-13، ويعززه قانون آخر صدر بالتزامن اسمه قانون حرية الأسعار والمنافسة يحمل رقم 12.104. هذا المجلس يمارس المهمة الاستشارية في الحالات التي تطلب منه من لدن الحكومة أو البرلمان أو غيرهما من المؤسسات، لكنه، حين يتلقى شكاية أو إحالة أو مجرد مؤشر صغير على احتمال وجود تلاعب بالسوق، يتحوّل إلى جهاز للتحقيق والزجر، يخوله القانون القيام بالتحريات، واللجوء إلى خدمات النيابة العامة، وإنزال غرامات تهديدية بالأطراف التي ترفض التعاون وكشف المعطيات. المجلس الذي يرأسه إدريس الكراوي يمكنه، أيها السادة، فرض عقوبة مالية تبلغ 1 في المائة من رقم المعاملات العالمي للشركة التي ترفض التعاون أو تغش في ذلك. أما إذا ثبتت المخالفات والتلاعب بالسوق، فإن هذا المجلس يستطيع فرض غرامة تصل إلى 10 في المائة من رقم المعاملات العالمي، إذا كانت الشركة دولية، أو الوطني إن كانت وطنية. إما إذا عادت الشركة نفسها إلى ارتكاب المخالفة في أجل 5 سنوات، فإن العقوبة المالية تضاعف. هذا المجلس أنجز قبل أشهر، عندما كان المغاربة يخوضون حملة للمقاطعة ضد ثلاث شركات، بينها كبرى شركات توزيع المحروقات، دراسة شاملة تضمنت خلاصات دقيقة، لكن افتقار المجلس إلى الولاية القانونية حال دون ترتيب الإجراءات بناء عليها. المجلس اليوم يحوز الولاية والصلاحيات القانونية الكاملة. أكثر من ذلك، لم يعد المجلس مدعوا إلى الانتصار للمستهلك-المواطن والحكومة والبرلمان، فقط، بل إن بين يديه اليوم شكايات جديدة من نقابات وممثلي محطات توزيع المحروقات، كلهم يشكون هيمنة غير مشروعة وتحكما في الأسعار والجودة على حساب باقي الأطراف، أي، في نهاية الأمر، على حساب اقتصاد البلاد وعلى حساب الوطن. ما ينتظره المغرب اليوم من مؤسسة حوربت منذ أول يوم أحدثت فيه، قبل نحو عقدين، ومباشرة بعد تنصيبها فعليا من لدن الملك سنة 2009، وفُرض عليها التجميد والتكبيل بعد صدور القوانين التي تمنحها سلطات حقيقية في 2014؛ هو إشارة حقيقية إلى إمكانية استرجاع المؤسسات مصداقيتها، وأدائها دورها الحقيقي الذي هو حماية المصلحة الجماعية في مواجهة المصالح الفردية والفئوية. ما ينتظره المغرب من مجلس المنافسة هو إثبات مناعة الدولة في مواجهة أي كراتيلات كيفما كان حجم أعضائها أو مواقعهم الاقتصادية والسياسية. ما ينتظره المغاربة من مجلس المنافسة، وهم يتفرجون على ثورة السترات الصفراء التي خرجت بسبب أسعار المحروقات، وانفلاتاتها التي أحرقت مواقع رمزية في عاصمة فرنسا، هو إنقاذ آخر أمل في تقويم النموذج التنموي واستئناف مسار الإصلاح. الليبرالية تقنين وضبط وحرص على التوازن، بقدر ما هي حرية في المبادرة والاستثمار، وقبل هذا وذاك، هي روح تنبع من السياسة، فلا تلعبوا بالنار.