في السياسة، تصبح الحقيقة مراوغة، وإذا شعر السياسيون بالسلام المستطاع للنفس، كما روى جوته في «فوست» (الجزء الأول من التراجيديا)، فإننا، لا محالة، سنكون إزاء قديسين. لكن ليس هناك مجال للنوايا الحسنة، والطريق لم تكن أبدا مفروشة بالورود، حتى وإن كان الشيطان نصيرك. النوايا الحسنة علامة على السذاجة السياسية، والموقف المثير للاشمئزاز ليس شيئا آخر غير ما توحي به تلك النفس الأمارة بالسوء. لا أفهم السياسة بتلك الكيفية التي تخلو من أي جوهر أخلاقي. السياسي ليس مرتزقا، وإذا ما حدث أن تحول إلى ذلك، فإن عاقبته أضيق من بؤبؤ عينه. يجب ألا تخدعنا المظاهر، خصوصا في مشهد النهايات؛ الجنائز على سبيل المثال، والحشود التي تتدفق لتأبين أولئك السياسيين الذين كانوا أكثر خسة من الآخرين الذين يدفنون عادة في طقس ماطر. التاريخ قد يكون مخادعا، لكنه منفلت من الرقابة؛ وبرقيات تمجيد السير الذاتية لا تتضمن إعفاء أزليا من المحاسبة. الموقف السياسي عجلة مسننة تتحرك بانسجام لتقدم المجتمعات. على السياسيين الذين تتلخص وظيفتهم في الحياة في الوقوف مثل أي ممتهنة جنس بئيسة، وبيع ما يشكل أفضل ما يمكنهم تقديمه لأول مزايد، أو لمقدم العرض الأفضل، أن يشعروا بالخزي، لكن، أي خزي سيشعرون به وهم بمستطاعهم أن يشتروا حتى السند الحيوي للموقف المباع على رصيف المزاد. ومع ذلك، لا مجال للتخاذل، ولا اليأس. ينبغي ألا أكون غامضا، لكني بالكاد أحاول أن أنتقي العبارات بعناية، وما أفعله عادة هو أن أبتعد بها عن الابتذال، وعن البساطة التي تكاد تجعل أي شيء وجهة نظر. أما أن تكون مباشرا، فإنك ستكون معرضا للاستهداف باسم مقولة الانحياز التالفة. دعونا نكون عمليين، إذن، فإذا كُنتُم تعتقدون أن الدرس النظري في الأخلاق السياسية ما كان يجب الدوس عليه، فإن تغلغله الواقعي، على الأقل، ينبغي محاربته دون كلل. لنكن واضحين؛ إن الغاية الفضلى التي تمعن في الاستباحة الوقحة للوسيلة، لا تفعل أكثر من إفساد كل شيء. لقد نجح أولئك الذين كانوا ضحايا للاستخدامات المريرة لهذه الغائية المنحرفة، في جعلها وسيلة لتقدمهم هم لا من كان يستعملها. وتعطينا صناديق الاقتراع دروسا في ذلك. لقد تحدثت عن أولئك «الحداثيين على السريع» الذين ليس في أولوياتهم أن يكونوا حداثيين، بقدر ما يشغل بالهم أن يكونوا أداة للتدمير الذاتي. وعندما يصل هؤلاء إلى خط النهاية، إن وصلوا إليه فعلا، فإنهم يشعرون بضعفهم الأخلاقي إزاء الوحش الذي كانوا يسندونه. الفوضى ليست في نهاية المطاف سوى تلك المحاولة اليائسة التي يلجأ إليها الطيبون لتشوهاتهم البنيوية، لتقويض الحقيقة. وعندما يشعر الجميع بالاضطراب الأخلاقي إزاء المفاهيم والقيم السياسية، لا يكون للحقيقة أي جدوى. في المشهد الأخير، يعلق الأخيار فوق الأعمدة، فيما تصفيق العوام يرتفع في الأرجاء. لقد كانت التجربة الفاشلة التي غيرت طريقتنا في إدراك السياسة هي الازدراء المنهجي للحقيقة باسم النسبية. بمقدورنا قيادة الفيالق في حرب أهلية عندما نتجرد من أي حقيقة، وعادة ما يكون الأخيار الذين حاولوا أن يجعلوا حقيقتهم غير ذات أولوية، هم وقود هذه الحرب. لا مكان للإيديولوجيا بعد الآن إذن، لأن العقل لم يصبح شأنا ذَا بال. الأهمية القصوى الآن هي للحشد. في مثال مغرٍ، يصبح السياسي تحت وطأة التغيرات الطارئة على وضعه، وضعفه الظاهر والمستتر، قادرًا على الكذب والخداع والتبرير الفج. وكيفما كان موقعه الصوري في الخريطة، يساريا أو يمينيا، أو شيئا رماديا ما، فإن عقد الصفقة يجب أن يتحول إلى وجهة نظر، وسيقدم إليك ما تحتاج إليه لكي تقتنع بأن الغاية تسمح بذلك. إن السياسي المؤمن بضرورة الحشود في عمله، سيعرض عليك وجهة نظر الحشود المزعومة، لا رأيه الحصيف. لقد كان الناس دوما ضحايا هذه المقالب التافهة، وكانوا، مرات عدة، ينخدعون بها. وباسم قيم تتعرض للتزييف، يمكن لليساري أن يقنعك بأن دفاعه عن يميني خال من الدسم فيه نفع للناس، وسيركب سيارته بعدما كان لا يحتمل حتى النظر إلى وجهه في ما مضى. لكن ذلك لا يحدث لليميني، فهو مقتنع بأن الناس لا يتبعون سوى ما هو بدائي؛ القبيلة والعائلة والنقود. وبالنقود يمكنه أن يشتري يساريا مثقلا بالديون دون شك. رغم ذلك، فإن الاعتداء السياسي لا يمكن تغليفه بأي زخرف بلاغي. للناس قدرة على التغيير، لكنهم يشعرون بما يشعر به ذلك السياسي الشبيه باللحم المفروم وهو يحول الموقف إلى إعلان عروض. الشعور بالغبن والأذى المعنوي لا يمكن أن يضمحل سريعا، والسياسيون فهموا اللعبة أيضا، لذلك، يتلاعبون بهذه المشاعر نفسها، وننتهي جميعا إلى الاستدامة الفجة للنتائج عينها؛ أي إلى شكل من القبول الضمني بالارتماء في الدوامة وكأنه قدر مسلط. في هذه المعركة، يحقق العدميون بعض المكاسب الإضافية، وعلينا ألا نسمح لهم بمزيد من التقدم. فالتجربة التي نكررها مرات عدة، رغم فشلها، يجب أن تتوقف أيضا