يطرح تصاعد مظاهر التوتر الاجتماعي المعبر عنه باحتجاجات المواطنين، سواء الظاهرة في الساحات والشوارع العمومية، أو المُستنتَجة من المزاج العام السائد بين فئات عريضة، المنقولة بعض تفاصيله على مواقع التواصل الاجتماعي، أسئلة محرجة ومقلقة تتعلق بنجاعة اختيارات السلطة في المجال الاجتماعي أساسا، وما إذا كانت جادة في التقليص من الفوارق، أم أنها تعالج الأزمة بالهروب إلى الأمام، تحت دخان شعارات أقرب إلى الغايات والمثل العليا التي لا يمكن الوصول إليها، أكثر من قربها إلى سياسات عمومية مؤطرة سياسيا قابلة للقياس، وللإخضاع لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ذلك أن تركيز الخطاب الرسمي لكثير من مؤسسات الدولة على الجانب الاجتماعي، ووصف الحكومة لنفسها بالاجتماعية، ونعت قانون المالية بالاجتماعي، لا يعني بالضرورة أن هناك ما يكفي من الوضوح مع المواطنين، حول ما ينتظرهم في هذا القطاع الحيوي والأساسي في خلق شروط الاستقرار الاجتماعي والسياسي. والحقيقة أن ارتفاع وتيرة المبادرات الاحتجاجبة للمغاربة في مناطق متفرقة من البلاد، طيلة السنوات الماضية، واستمرار تزايد نسب الفقر والبطالة ومختلف مظاهر الهشاشة، دليل كاف على أن الخلل لا يكمن في المعطيات المتعلقة بالحكامة والموارد المالية، أو في تعدد البرامج الاجتماعية واختلاف وكثرة المتدخلين في تنفيذها، بقدر ما يكمن في أمر آخر يتعلق بالاختيار والنموذج، ولذلك يصعب أن تنجح محاولات تقديم الرفع من الاعتمادات المخصصة للقطاعات الاجتماعية، وتجميع البرامج العمومية في القطاع، على أنها الحل المناسب للاختلالات المرصودة. إن النقاش حول المسألة الاجتماعية في المغرب، ينبغي أن يتجاوز لغة الاعتمادات المالية المخصصة للقطاعات ذات العلاقة بالخدمات الاجتماعية، ويتجاوز، كذلك، متاهات الحديث عن تجميع وتوحيد البرامج التي تدخل في إطارها، من معاشات بمختلف أنواعها، وتغطية صحية ودعم مالي لفئات مثل النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، إلى الوقوف على ماذا ستجني البلاد من تبني نموذج الرعاية الاجتماعية المعمول منذ سنوات في دول كثيرة، تعيش اليوم بسببه على ايقاع اضطرابات وهزات اجتماعية مربكة. لقد أظهرت الأحداث المتوالية في دول تتفوق على المغرب في قوة بنيتها المجتمعية والسياسية، مثل فرنسا، أن نموذج دولة الرعاية الاجتماعية، يفضي إلى أعطاب يمكن أن تشكل خطرا على التوازن المطلوب، ومرد ذلك إلى التأثير القائم بين الاختيارات الاقتصادية وبين طبيعة الوظائف الجديدة للدولة وللسلطة، حيث فرضت الاختيارات الليبرالية المؤلّهة للسوق وللربح بدون ضوابط، على الدولة تقليص الإنفاق العمومي على الخدمات الاجتماعية، مع تحمل مسؤولية الإشراف، التي تجعلها محط انتقاد ومساءلة. وتزداد حدة الأعطاب التي يحملها نموذج «دولة الرعاية الاجتماعية» كلما كانت الدول متواضعة الموارد، وضعيفة النمو الاقتصادي، فتجد نفسها مضطرة إلى تفويض التزاماتها الاجتماعية للقطاع الخاص، فتنتعش المدارس الخصوصية والمؤسسات الصحية الخاصة، وتصبح مختلف الخدمات الاجتماعية الأخرى تؤدى بتمويل ذاتي للفئات المعنية بها من خلال مبدأ الاشتراكات التي تتحملها فئات محددة، وعندها تخرج هذه الخدمات من مجال العمومية إلى مجال التسليع. إن تسليع الخدمات الاجتماعية، يضرب في العمق كل شعارات التمكين الاجتماعي للفئات المهمشة، وينسف شعار تحقيق كرامة المواطنين، لأنهم يجدون أنفسهم خاضعين لمنطق التجارة، وليس لمنطق المواطَنة، وفي هذا تحول كبير وغير آمن في علاقتهم بدولتهم وفي استمرار ثقتهم فيها وولائهم لها، تحول قد لا تنفع معه كثرة الكلام وكثرة الأرقام!