الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساء، بعد يوم طويل في الفصل الدراسي، يتوجه محمد (22 عاما) بمعية صديقه إبراهيم إلى أحد معاهد تعلم اللغة الإنجليزية في وسط الدارالبيضاء. محمد قرر لقاء صديقه إبراهيم بالقرب من المعهد قبل الصعود إلى الفصل الدراسي. وعلى عكس محمد، فإبراهيم منقطع عن الدراسة واقتحم عالم “البزنس” مبكرا، حيث يمتلك متجرا مخصصا لملابس النساء. إقباله على تعلم الإنجليزية نابع من رغبته في توسيع تجارته عبر التواصل مع الزبناء الأجانب، خاصة الصينيين . حلم الهجرة نبرة حديث محمد توحي بأنه مجبر على استكمال دراسته الجامعية، إذ يدرس الاقتصاد في سنته الثانية، ولا يملك أدنى رغبة في مواصلة العيش في المغرب. يقول بهذا الخصوص: “حاليا، أفكر في الهجرة إلى كندا، لذا أجدني مجبرا على تعلم الإنجليزية من أجل تسهيل مأمورية الهجرة”، ويضيف: “أنا أعرف أنني سأفني أيام شبابي أدرس هنا وفي الجري وراء الشواهد الدراسية دون فائدة، سأجدني في الأخير على غرار من سبقوني أنتقل من شركة إلى أخرى بحثا عن عمل بأجر لا يكفيني حتى لقضاء أغراضي الأساسية”. ما قاله محمد ليس سوى انعكاس لطموحات فئات واسعة من الشباب المغربي الحالم بالهجرة بأي ثمن، تعكسها الأرقام الصادرة في هذا الصدد. من خلال تبادلنا أطراف الحديث مع محمد، تبدّى لنا في نبرته تشاؤم كبير فيما يخص الأفق الذي يبدو مظلما بالنسبة إليه، لا يخفف من قتامته سوى التمسك بخيط أمل الهجرة صوب بلاد الأحلام “الإلدورادو” الكندي. أثناء حديثه معنا كرر غير ما مرة كلمة كندا على لسانه، كما يعمد في كل مرة إلى المقارنة بينهم وبيننا “تماك أصاحبي تقدر تدير مستقبلك، وحتى إلى ضربتي تمارة تكون نتيجة”، يقول محمد، مخاطبا صديقه إبراهيم، الذي يبدو أنه يخالفه الرأي. فإبراهيم بخلاف صديقه محمد لم يحظ بفرصة استكمال دراسته الجامعية، واختار في المقابل مواصلة المسار الذي خطه له والده وهو التجارة، عاملا بمقولة “حرفة بوك ليغلبوك”. “أنا خدام لراسي وبخير، ثم إنني لست مضطرا للاشتغال عند فلان أو علان بحال العبيد”، يقول إبراهيم، ابن تارودانت (ذو ال24 ربيعا)، والذي استقر وعائلته منذ زمن في الدارالبيضاء، نظرا لما تقدمه العاصمة الاقتصادية من آفاق لممتهني التجارة. كل همّ إبراهيم مركز حول الذهاب بعيدا في تجارته، والانتهاء بالعودة إلى مسقط الرأس، “مبغيت لا مريكان لا كندا، بغيت نمشي البلاد نتصنط لعظامي”، يقول ممازحا صديقه. لا تحدثني عن السياسة والساسة خلال تجاذبنا أطراف الحديث عرجنا للحديث قليلا عن السياسة وعوالمها، وبمجرد ما سألناهما عن رأيهما في السياسيين المغاربة وفي الأحزاب، تبدى لنا جليا أن الشابين غير مكترثين البتة بالسياسة وبممثليها وبعوالمها. “هادوك غي شفارة تيخدمو مصالحهم”، يقول محمد، واصفا السياسيين بنبرة توحي باللامبالاة وعدم الاكتراث، بما يعتمل في مطبخ السياسة المغربي”. شخصيا لم يعد يهمني ما يقوم به هؤلاء السياسيون، فهم لا يجيدون سوى الثرثرة والوعود الكاذبة، ولا نراهم إلا في المناسبات الانتخابية، ثم يختفون بعدها”، يردف ابن البيضاء. وأثناء الحديث تدخل إبراهيم ليدلي بدلوه في الموضوع، معربا عن انزعاجه كتاجر من القرار الأخير المتعلق بمدونة الضرائب على التجار، فبهذا القرار يريدون تضييق الخناق علينا “بقينا ليهم غي حنا”، يقول إبراهيم بنبرة لا تخلو من انزعاج. ونحن بمعية الشابين انضمت إلينا سارة وأميمة، طالبتان جامعيتان في سنتهما الأولى، تخصص اقتصاد. الشابتان تدرسان بدورهما في المعهد نفسه. في الوقت الذي سمعت فيه سارة موضوع السياسة، طلبت من زملائها عدم تضييع وقتهما في الحديث عن “هذا الموضوع العقيم” كما وصفته، فهذه الطالبة 19 عاما لا تهمها السياسة ولا السياسيون، كل ما تريده هو أن تكمل دراستها وتبحث عن فرصة شغل للنجاة من براثن البطالة التي تنتظرها في بلدها كما تقول، بالبحث عن فرصة خارج الديار من أجل مواصلة دراسة الماجستير. أرق الحصول على عمل في دردشة مع ابنة مدينة البيضاء أبرزت أنها تمارس رياضة السباحة كهواية موازية تساعدها على التخلص من ضغوط الدراسة والحياة، ” كنت أتمنى لو أني تمكنت فعلا من أن أصبح سباحة محترفة، لكن مع الأسف لم يعد بإمكاني ذلك، لقد فات الأوان”، تقول سارة، متابعة: “في أوروبا يشجعون التلاميذ والطلاب في المدارس على ممارسة هوايتهم والكثير منهم يصبحون فيما بعد ناجحين في المجالات التي اختاروها، أما نحن “فمصاب غا يقريوك”، تردف سارة بنبرة ساخرة. زميلتها أميمة 20 عاما، تقف هادئة بجانبها بشعرها المموج الأسود الفاقع اللون، مكتفية بابتسامة ترسمها على شفتيها بين الفينة والأخرى. ماذا عنك أنت يا أميمة؟ سألنا الفتاة، “كل ما يؤرقني حاليا هو مصيري بعد انتهاء الدراسة الجامعية، أفكر من الآن في المصير الذي سألقاه وخوفي كل الخوف أن ألقى المصير ذاته، الذي يلاقيه الكثير من زملائي الطلبة الذين لازالوا يحملون سيرهم الذاتية في حقائبهم وهو يخيطون المؤسسات جيئة وذهابا دون فائدة”، تجيب الشابة العشرينية. دقت ساعة بداية فصل اللغة الإنجليزية وودعنا الشباب الأربعة، الذين التحقوا بفصلهم، واجتمعنا في أحد مقاهي وسط البيضاء بفاطمة وخالد وإكرام، ثلاثي قرر الانخراط في العمل الجمعوي الذي يستهويهم. البطالة هي الأفق درست فاطمة علم النفس وحصلت على شهادة الإجازة، ولأنها لم تجد فرصة سانحة للعمل بعد تخرجها، قررت تكريس هذه السنة للعمل الجمعوي كمحطة تدريبية، في أفق استكمال دراستها في السنة المقبلة في الماجستير. إذ تتردد بشكل مستمر على إحدى عيادات الطب النفسي من أجل الاحتكاك عن قرب بالمجال، كما تقول. ترغب ابنة مدينة تاونات خلال السنة المقبلة تجريب حظها في طلب منحة للدراسة في ألمانيا، فالتخصص الذي اختارته لا يتماشى والإمكانات المتاحة في المغرب، “هنالك تخصصات وبحوث نادرة في المجال أغلبها مراجع أجنبية، لذا سيكون من الأفضل لي أن أنفتح على تخصصات أجنبية في المجال”، تقول الفتاة، مردفة “اطلعت على بعض التخصصات في ألمانيا ووجدت الكثير منها، لكنها مع الأسف تخصصات تغيب هنا في المغرب”. أثناء الحديث مع فاطمة تبين أنها ممن تمكن منهم اليأس بشأن الأفق في المغرب، “خلال الربيع العربي الذي وصلتنا بعض من رياحه، خالجنا الأمل بأن يصبح هنالك واقع جديد في بلادنا، لكن ما حصل هو العكس تماما”، تقول الشابة العشرينية، مضيفة: “أن الأحزاب التي كنا نعول علينا اكتشفنا أنها باعت لنا الوهم، وكل ما وقع مجرد جعجعة بلا طحين”. الشباب، أيضا، مسؤول “الشعب، أيضا، مسؤول عما يحصل لنا”، يقول خالد مقاطعا صديقته فاطمة، ف”الأحزاب إن كانت لا تصلح لشيء، فلأننا نحن من منحناهم سلطة تمثيلنا والتحكم في مصيرنا”. بالنسبة إلى خالد، (25 سنة)، مهندس إعلاميات في إحدى المؤسسات الخاصة، للشعب وللشباب، كذلك، نصيب من المسؤولية في واقع الإحباط الذي يراه منتشرا وسط أقرانه. وحينما سألناه عن السبب، قال خالد “إن هذا الشعب يثق بكل ما يقدم له من وعود، كما أنه لا يبذل جهدا في معرفة واقعه والمطالبة بحقوقه، فهو شعب انبرى للاهتمام بتوافه الأمور التي لا تغني ولا تسمن من جوع”. “الشعب، أيضا، ضحية لسياسات كثيرة يا صديقي”، تقاطعه (إكرام 24 عاما)، درست بدورها المعلوميات دون أن تتمكن لحدود الساعة من إيجاد فرصة عمل تنتشلها من براثن البطالة التي يبدو أنها تؤرقها. بالنسبة إلى هذه الشابة، ما وصل إليه شباب اليوم، يعود إلى فشل منظومة التعليم في بلادنا، “فجامعاتنا عوض أن تفرخ لنا كوادر وأطرا، تفرخ لنا في المقابل أفواجا من العاطلين”، تقول إكرام ، متابعة “تجد طلبة يفنون زهرة شبابهم في الدراسة ويحصلون على الدكتوراه بعدما شاب شعر رأسهم، بيد أنهم يجدون أنفسهم في الأخير بين أحضان البطالة، وإذا ما اشتغلوا يحصلون على أجور زهيدة لا تعكس مستواهم الدراسي وطبيعة تكوينهم”. نعم، هنالك أمل مرت ثلاث سنوات على انضمام فاتحة إلى العمل في القطاع الخاص بإحدى الشركات، درست مهنة الصيدلة بعدما لم تخول لها نقطة البكالوريا تحقيق حلمها وولوج كلية الطب، “مكتابش”، تقول فاتحة (27 سنة)، مردفة “أنا سعيدة جدا بعمل اليوم، وأعتقد أنني محظوظة في هذا الجانب”. بالنسبة إلى فاتحة، لا تستهويها أبدا فكرة الهجرة، وتعتبر أن المغرب بالرغم من المشكلات التي تعتريه، فهو يبقى أرحم من العبودية التي يتعرض لها العديد من العمال في البلدان الأجنبية، بحسب وصفها. “لا فرق بين هنا وهنالك فالأمر سيان، أوروبا ليست جنة والعديد ممن يشتغلون هنالك يبذولون جهدا مضاعفا من أجل تلبية المتطلبات اليومية للحياة”، تقول فاتحة، مردفة “أعرف “الكثير ممن تركوا مهنهم هنا وهاجروا، لكنهم ندموا بعد ذلك”. بالنسبة إلى فاتحة على الشباب من أقرانها أن يتحملوا مسؤوليتهم في البحث عن إثبات ذواتهم والسعي إلى تحقيق النجاح في مسارهم الدراسي حتى يتسنى لهم الحصول على فرص الشغل، “لا يمكن للإنسان أن يبقى مكتوف الأيدي، مكتفيا بالشكوى والبكاء، “كاملين تنعرفو نبكيو ونشكيو، وإلى جات هاكا مغنديرو والوا”، تقول فاتحة بابتسامة عريضة على محياها.