دخل المغرب منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية لأكتوبر 2016، في حلقة مفرغة على مستوى تدبير الهامش الديمقراطي، الذي كان في لحظة «الربيع العربي» يمثل حالة استثنائية في منطقة شهدت انهيار أنظمة شمولية وصعود تجارب جديدة لم تكتمل بعد أو تم الانقلاب على بعضها، كما شهدت سرقة طموحات شعوب أخرى وأدخلتها في أتون حروب أهلية خدمة لأجندات إقليمية ودولية، كان المغرب يمثل حالة خاصة في تدبير تراكم مطالب الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبدا لكثير من الملاحظين أن بلادنا تخط أسلوبا خاصا لتجاوز إخفاقاتها في عملية التحول الديمقراطي التي كانت في كل مرة فرصة لتجديد شرعية النظام السياسي وتعزيز بنيته وتحالفاته، وكلما حقق النظام هذه النتائج، كلما فقدت الأصوات المعارضة والتيارات السياسية سواء الإصلاحية أو الراديكالية القدرة على التعبئة والانتشار. ففي لحظات الأزمات الكبرى، كان النظام وحده من استطاع تحقيق تراكمات مهمة مع تحسين موقعه وقدرته على المبادرة وفرض شروطه لعملية الإصلاح المعقدة؛ التي استغرقت زمنا طويلا منذ وصول المعارضة السابقة إلى المشاركة في الحكومة سنة 1998. مع انتقال الملك في يوليوز 1999، حاز النظام نفسا جديدا وقدرة على تقديم عرض سياسي واجتماعي واقتصادي جديد، قام بداية بدفن سنوات الجمر والرصاص من مدخل العدالة الانتقالية، وعبر عن رغبة في المصالحة مع مجالات ترابية شهدت خلال العهد السابق سلسلة من العقوبات الجماعية كرست هامشيتها في الاقتصاد الوطني، كما اتسمت المرحلة برؤية جديدة للاقتصاد ولعمل الإدارة بمختلف مكوناتها، جملة كانت البلاد تعرف عهدا جديدا، طغت عليه سياسات علاقات عامة قوية وضعت في واجهتها تسويق صورة ملك جديد شاب ليست له مسؤولية مباشرة فيما جرى على عهد والده، كان المشهد مغريا وكانت البلاد أمام ملكية جديدة بخطاب وأسلوب جديد في الحكم. بعد كل تلك السنوات تظهر ملامح المملكة اليوم، شاحبة يستوطن كثير من مفاصلها الشك بدل اليقين الذي ساد البدايات، وشكلت سنة 2017 بشكل أساسي، السنة التي تفجرت فيها كثير من التناقضات وسقطت فيها كثير من اليقينيات، فهي السنة التي تميزت ب»بلوكاج» تاريخي ميز تشكيل الحكومة. هذا «البلوكاج» مثل نقطة نهاية السير بخصوص الخطابات الكثيرة التي تم الترويج لها عن أهمية الانتخابات ومركزية هذه العملية في عملية تعزيز المشاركة السياسية والتحول الديمقراطي، إذ أثبت واقع تدبير تشكيل الحكومة، أن صناديق الاقتراع لا علاقة لها بمخرجات العملية الانتخابية، وأن قرار تشكيل الحكومات وضدا على المتن الدستوري، هي علمية سياسية من خارج الأحزاب السياسية، وأن ترتيب القوى السياسية حسب حجمها ودورها، يتم حسب أولويات ومصالح معينة، هذا التدبير الصادم للعملية الانتخابية أدخل البلاد ككل في حالة من الانتظارية القاتلة، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تم تسجيل العودة إلى تنشيط ممارسات من الماضي فيما يخص إعادة إنتاج حزب الدولة، التي أثبتت أن البلاد ليست مستعدة تماما للمضي في مسار الإصلاح السياسي الهادئ والتراكمي، بل على العكس من ذلك، فإنها أثبتت جرأة غريبة على معاكسة منطق التاريخ وأصرت على إغلاق قوس الربيع العربي وأثره على المغرب، وفق رؤية تسقط السياق وتتوهم أن تغير السياق الدولي، يسمح باستعادة زمام المبادرة التي بقيت هي الأصل. الخطير في الأمر أن سلسلة التراجعات التي عرفتها البلاد بعد «البلوكاج» سياسيا وحقوقيا، تتزامن مع وضعية اقتصادية خانقة ومع إعلان فشل النموذج التنموي الذي كان أيقونة عقد الإصلاحات في بداية هذا العقد وكانت موضوع سياسات علاقات عامة واسعة، علما أن صناعتها كقرارات عمومية كانت من خارج المؤسسات الدستورية، وكانت حكرا على مكاتب الدراسات الدولية وحلقات ضيقة في محيط صناعة القرار، ولعل الحراك الاجتماعي في كل من «الريف» و»جرادة» يمثلان الدليل العملي لفشل جزء كبير من الاختيارات الاقتصادية والتنموية؛ لم تنعكس أبدا على المعيش اليومي للمغاربة، ولم تحسن ترتيب المغرب دوليا على مستوى التنمية البشرية، كما أنها لم تنج من انتقادات المؤسسات المالية الدولية. الواقع أن المغرب منذ سنوات وهو يعرف سياسة تقويم هيكلي غير معلنة مفروضة من صندوق النقد الدولي، سواء تعلق الأمر بتحرير الأسعار أو تحرير صرف الدرهم أو تفكيك صندوق المقاصة، فإن هامشية استقلال القرار الاقتصادي تضيق يوما عن يوم، وهو ما يخلف وسيخلف مزيدا من الاحتقان الشعبي، بينما الحكومة ومكوناتها منشغلة بالزمن الانتخابي الذي لا يقدم ولا يؤخر.