ينبغي أن نعترف أن الحالة التي وصلنا إليها اليوم جد صعبة، ليس لأن 20 فبراير عرفت زخما احتجاجيا واسعا على غير نسق السنوات الماضية، وليس لأن المؤشرات التي برزت تؤشر على عودتها، فهذا تقدير بعيد لم تنضج شروطه بعد، على الأقل إذا كان الأمر يتعلق بهذه الحركة ومكوناتها المعروفة، وإنما تتبرر هذه الوضعية بشروط أخرى. أولها أن الشروط الاجتماعية التي أفرزت هذا الحراك أضحت اليوم أكثر هشاشة، وثانيها، أن المسار الذي تعتقد حركة 20 فبراير والمكونات الراديكالية التي اجتمعت فيها، أنها خطفت من بين أيديها من قبل حزب العدالة والتنمية، قد دخل منطقة الغموض والتردد، وثالثها، هو وجود مفارقة خطيرة في توازنات السياسة في المغرب، فبالقدر الذي لايزال حزب العدالة والتنمية يحتفظ فيه بأكبر قاعدة اجتماعية بالمقارنة مع القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية، ثمة رهان من داخل مراكز القوى، لإبعاده خارج مربع القيادة للحكومة. تركيب هذه المؤشرات، أنه في الوقت الذي تزداد فيه الوضعية الاجتماعية تهاويا، وتُنذر بإمكان تخلق حركات اجتماعية عفوية غير متحكم في اتجاهاتها، يتم فيه الرهان على الإنهاك الداخلي للتعبير السياسي الذي يحمل أكبر قاعدة اجتماعية، تؤمن بخيار الشراكة مع الدولة وممارسة الإصلاح في إطار الاستقرار. وضع صعب، يحمل مؤشرات الغموض والتناقض، فالقوى الإصلاحية يتم إنهاكها بسبب أن جماعات المصالح، لم يقو تعبيرها السياسي المدافع عنها أن يواجه الديناميات السياسية التي أنتجتها هذه القوى، فأصبحت هذه اللوبيات، بوحي من مصالحها، تفكر التخلص منها، وهي لا تدرك أنها تهدم أهم الأساسات التي تعتمد عليها الدولة في مواجهة الأوضاع الصعبة التي تتفجر على خلفية اجتماعية. خطابات الدولة التي تواترت صيفا، وضعت كل الاهتمام على المسألة الاجتماعية، في الوقت الذي لا يساير النمو ولا الإمكان الاقتصادي ضغط الطلب الاجتماعي، بل حتى تغير الشروط الإقليمية تُعاظم التحديات أمام المغرب الذي كانت علاقاته المتينة مع دول الخليج. في ظل هذه الوضعية المعقدة، من الضروري طرح أفكار لمواجهة هذه التحديات. للأسف، لا يملك المغرب خيارات اقتصادية يمكن الرهان عليها في المدى القريب والمتوسط للخروج من هذه الوضعية، فدون رهان على السياسة، يتحول واقع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، إلى قنبلة موقوتة، وتزداد خطورتها أكثر عند أي تحولات إقليمية صعبة. ولذلك، لا تتصور خارطة طريق للجواب عن هذه التحديات، من غير إنهاء واقع الغموض والتردد في مشهد السياسة، وتغليب مصلحة الوطن على مصلحة جماعات المصالح، والانتباه إلى أن المسار الديمقراطي، يتقوى بالقوى الإصلاحية التي تتجذر في المجتمع، وأن الدولة تحافظ على استقرارها أكثر، كلما حافظت على شراكتها مع القوى المتجذرة اجتماعيا، وليس عبر تقاطعات وخدمة منافع مع جماعات المصالح. ثاني الأفكار التي ينبغي التركيز عليها، هو الانتباه إلى مخاطر الاهتمام بجماعات المصالح على حساب وضعية الفقراء ووضعية الطبقة الوسطى التي تهاوت مؤخرا بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، ومخاطر مسايرة انزعاج هذه الجماعات من الأصوات الحرة، بقمع الصحافة وحرية التعبير، والتحكم في مؤسسات صناعة الرأي السياسي والمدني والحقوقي. ثالث هذه الأفكار، هو أن المصالحة شرط ضروري في أي عملية إعادة الأمل، فالمجتمع اليوم، يحتاج إلى تجديد الثقة ويحتاج إلى بعث الأمل، بعد موجة التردد والغموض ومؤشرات عودة السلطوية، والتشويش الذي حصل على مضمون الشراكة. والتجديد لا يمكن تصوره خارج موجة جديدة من المصالحة مع الرأي المخالف، ومع المناطق المقصاة من خارطة التنمية، ومع التاريخ أيضا. رابع هذه الأفكار، أن يتجه العرض السياسي الجديد لإصلاح دستوري جديد، يعطي مضمونا أدق وأوضح لمعادلة ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويوضح العلاقة بين المؤسسات، وينهي حالة الشد والجدب بينها. البعض يعتقد أن الحل يكمن في استثمار اللحظة، وأن تحميل الحكومة مسؤولية الاحتقان والفشل، وخلق شروط تصويت عقابي ضد قيادتها، سينهي الموضوع، وسيخلق أملا جديدا. والحقيقة أن هذه الوصفة جربها المغرب أكثر من مرة، لكن مع القوى الجديدة التي كان لها تجدر في المجتمع، وخلقت مشروعية جديدة في السياسة، في حين، ليس في الفراغ الذي يعرفه حقل السياسة اليوم، بديل بهذه المواصفات. عند قبائل الشمال، هناك حكمة بليغة تقول: «لا تهرق الماء حتى تسقي من العين مثيله».