إذا كانت أولى شرارات الربيع العربي، التي انطلقت من تونس متم 2010، قد ترددت أصداؤها فورا في مصر وسوريا واليمن، لتشمل جل الدول العربية، فإن ما نعيشه اليوم هو بلا شك موجة ثانية من الحراكات الشعبية، لكنه يتخذ صبغة إفريقية. من السودان انطلقت الشرارة شهر دجنبر الماضي، لتسمع أقوى أصدائها في جارتنا الجزائر، التي لم يكن أحد يتوقع خروج حشود المحتجين فيها ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة. وبين الجزائر والخرطوم، تقبل موريتانيا على تغيير «إرادي» لرئيسها الذي قرر عدم الترشح، فيما تحوّلت ليبيا رسميا، وللمرة الأولى، إلى ملف فوق طاولة الاتحاد الإفريقي، لإنهاء انقسامها الداخلي. وإذا كان المغرب توجه نحو إفريقيا في وقت كان يشكل فيه استثناء في الاستقرار وحماية الاختيار الديمقراطي، فإننا دخلنا، في الواجهة الداخلية، في عملية تبديد غير مفهوم للرصيد الحقوقي والمؤسساتي، وأضعفنا الأحزاب السياسية والبرلمان، وقمعنا الاحتجاجات، واعتقلنا الصحافيين خارج القانون، كما خلصت إلى ذلك الأممالمتحدة رسميا في حالة توفيق بوعشرين، وهو ما قد يجعل أي موجة اضطراب يعرفها محيطنا الإقليمي، تجرفنا إلى ما لا تحمد عقباه. قد يقول قائل إنها تطورات تهم المنطقة العربية فقط، فلماذا ربطها بإفريقيا؟ في واقع الأمر، ما يحدث لا يخرج عن أجندة شاملة تروم نقل القارة السمراء من الهامش إلى مركز النظام الدولي، والأمر لم يعد سرا بعد كشف إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خطتها الخاصة بإفريقيا. الاتحاد الإفريقي، الذي يخضع منذ بضع سنوات لعملية تأهيل بدعم من بعض القوى الدولية ليصبح بنية تدبيرية قادرة على هيكلة سوق إفريقية مستقرة وقابلة للاستغلال، لا يشكو عطبا أكبر من تشرذم وتخلف منطقة الشمال مقارنة بباقي الجهات التي نجحت في بناء منظمات إقليمية فرعية، ما يعطل مشروع الاندماج الإفريقي. قبل أيام قليلة انعقدت القمة ال32 للاتحاد الإفريقي، وهو ما يصادف مرور سنتين كاملتين على حصول المغرب على العضوية الكاملة في التكتل القاري الذي يحمل إرث منظمة الوحدة الإفريقية. خطوة عبّرت مرة أخرى عن التقاط جيد للإشارات واستباق للتطورات الإقليمية والدولية. لنسجّل، أولا، المكاسب التي حققها المغرب من مقعده الإفريقي، وعلى رأسها الخطوة التي قام بها في ملف وحدته الترابية، والمتمثلة في جلوسه وجها لوجه مع خصومه الداخليين والخارجيين. فعلى بعد أمتار من مقعد المغرب داخل قاعة الجلسات العامة، يوجد مقعد وفد جبهة البوليساريو، وغير بعيد منهم تجلس وفود الجزائر وجنوب إفريقيا… وإذا كنا سننظر إلى هذا الأمر من زاوية المنتصر والمنهزم، فأولى بنا أن نعود إلى سياسة مقعدنا الفارغ التي أهدرنا فيها جيلا كاملا. لا سبيل لتحقيق أي من مشاريع الحل السلمي والدائم، بما فيه مقترح الحكم الذاتي، دون جلوس إلى الطاولة وبناء الثقة وتأسيس أرضية مشتركة. ورغم المساطر الطويلة والمعقدة لاستكمال العضوية، وما يعنيه ذلك من مصادقة على اتفاقيات وانضمام إلى معاهدات… تمكن المغرب من أن يسحب من أيدي خصومه أوراقا كان سيدفع ثمنها باهظا في السياق الدولي والإقليمي الحالي. فاستعادة العضوية جعلت «الفيتو» المغربي حاضرا في قلب مؤسسات الاتحاد، وعلى رأسها مجلس الأمن والسلم الإفريقي، إضافة إلى قرار قمة نواكشوط قبل 6 أشهر، والذي أعاد المنظمة القارية إلى موقعها الأصلي خلف المسار الأممي لتسوية نزاع الصحراء. في المقابل، لا بد من الإقرار بأننا لم نحوّل الزخم والتعبئة، اللذين رافقا عودتنا إلى الاتحاد الإفريقي، إلى دينامية جديدة تفتح أفقا جديدا على الأرض. صحيح أننا نجلس جنبا إلى جنب مع قادة البوليساريو، ونقود مباشرة عملية التصدي لتحركاتها، لكن المواقع لم تتغيّر، والاختراقات التي قامت بها دبلوماسيتنا في مجالات إفريقية جديدة، لم تغيّر من واقع تمترس كل طرف وراء حلفائه وأصدقائه. وعوض أن نستبق خطوات المبعوث الأممي الجديد بمدّ جسور بناء الثقة، لم يحمل هذا الوضع الجديد ما يجعل أطراف النزاع يدخلون مشاورات هورست كوهلر فاعلين إيجابيين لا ينتظرون لحظة كشف المخطط الدولي الجديد، الذي لن يكون سوى جزء من إعادة ترتيب شاملة للبيت الإفريقي. لقد عدنا إلى الاتحاد الإفريقي انطلاقا من قراءة مفادها أن اتحاد المغرب العربي مات سريريا، وأننا لن نبقي مصيرنا رهينا بهذه الأجندة الإقليمية. لكن إفريقيا رفضت التعامل معنا من خارج هذا الموقع. فرغم مسارعتنا إلى طلب العضوية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، معززين طلبنا بحجج القرب الجغرافي والفرانكفونية والروابط الاقتصادية، فإن طلبنا بقي دون رد رسمي حتى الآن. وحتى المشروع الضخم لبناء أنبوب للغاز بيننا وبين نيجيريا، لم يتأكد حتى الآن إنجازه الفعلي من عدمه. حتى ونحن نعود إلى بيتنا الإفريقي، نواجه ما ينبّهنا إلى أن البناء المغاربي حتمية تاريخية لا مفر منها. صحيح أن الجارة الجزائر، التي تهزها الاحتجاجات الشعبية حاليا، لم تردّ التحية الملكية الأخيرة بأحسن منها ولا بمثلها، لكن أزمتنا الجديدة مع إخوة الخليج العربي تؤكد أننا نستطيع بناء التحالفات وإنهاءها، لكننا لا نختار جيراننا. إن إفريقيا ماضية في وحدتها ونهضتها، الاقتصادية والديمقراطية. وإذا كنا قد نجونا من تداعيات الربيع العربي بقفزة نحو الديمقراطية، سرعان ما تراجعنا عنها، فإن «الربيع الإفريقي» ماض في موعده مع التاريخ، ولا يبدو مستعدا لانتظار خروجنا من التخلف الاقتصادي والسياسي أكثر مما فعل، وهو الآن يطرق أبوابنا بقوة من الشرق كما الجنوب، فهل من منصت؟6