قبل حوالي عقد من الزمن، أُثير سؤال مهم، بخصوص إمكان تعرض الجزائر للربيع الديمقراطي الذي عرفته عدد من البلدان العربية. كان الجواب الجزائري الرسمي، بل وحتى جواب عدد من النخب السياسية والمدنية، أن الجزائر ستكون بمنأى عن هذا الحراك لسببين: الأول، لأن الجزائر عرفت ربيعها الديمقراطي مبكرا مع انتفاضة الخبز سنة 1988، والثاني، أن الشعب الجزائري يحتفظ بذكرى أليمة أعقبت إسقاط المسار الديمقراطي سنة 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأن الشعب لن يتحمل المغامرة مرة أخرى بعدما دخلت الجزائر في سنوات من القتل العشوائي لأبنائها من جهات مجهولة، ولم يتوقف هذا المسار المدمر إلا بعد مضي سنوات. اليوم، وبعد خروج الجماهير الجزائرية للاحتجاج على ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، يبدو أن هذا الجواب أصبح فاقدا لقوة الإقناع. لا يهمنا الدخول في نقاش حول وضعية الرئيس بوتفليقة المقعد، ومدى أهليته من عدمها، ولا الدلالات التي يحملها هذا الترشيح، وما إذا كانت الدولة الجزائرية فاقدة لأوراق اعتماد جديدة، تسعفها في تجديد نسقها السلطوي، وإنما يهمنا أكثر، التوقف عند سقوط أطروحة بكاملها بصدد الحالة الجزائرية. أطروحة الحصانة من الربيع العربي، التي كانت تستند إلى سابق التجربة (الجزائر عرفت ربيعها قبل الآخرين)، وإلى «فوبيا» الدم (الذي عرفته الجزائر بعد إسقاط المسار الديمقراطي)، سقطت اليوم، ليس لأن الأوضاع تغيرت وربما الأجيال أيضا، وليس لأن السلطة السياسية في الجزائر بالغت في تكرار ترشيح الرئيس المقعد المريض عبدالعزيز بوتفليقة، وبلغت بذلك حد جرح الشعب الجزائري في مشاعره، ولكن، لأنها كانت في الأصل ثمرة وضعين نفسيين رئيسيين: الأول، يعود إلى نوع من النرجسية «الوطنية» التي تقدر بأن الجزائر (الدولة العظيمة) سبقت الآخرين، ولا يمكنها أن تتلقى الدروس ممن هم دونها، مثل تونس الياسمين. نسميها «نرجسية» وطنية، لأن النخب المتنفذة في الجزائر، هي التي حاولت صناعتها في مزاج الشعب الجزائري، حتى صار ذلك جزءا من تكوينه، والقصد منها، خلق الشروط النفسية لمقاومة عملية استلهام أي تجربة في الجوار. والثاني، يعود إلى نوع من الخوف «الموضوعي»، الذي تحول إلى أسطورة و»فوبيا» استعملتها النخب المتنفذة في الجزائر لخلق شروط مقاومة أي حراك شعبي احتجاجي يتطلع إلى مطالبة السلطة بإصلاحات سياسية أو اجتماعية. في لحظة الربيع الديمقراطي، لعبت السيكولوجية في الجزائر دورها، فاجتمعت «النرجسية الوطنية»، مع «فوبيا الدم»، وخلقت شروط مقاومة الانخراط في الفعل الاحتجاجي في الشارع، فنجت الجزائر من الحراك. لكن اليوم، يبدو أن سيكولوجيا مقابلة هي التي حسمت المعركة، وأسقطت أطروحة حصانة الجزائر من الربيع الديمقراطي، فالإحساس بالإهانة من قبل النخب المتنفذة في الجزائر، كسر السيكولوجية «النرجسية» والسيكولوجية «الرهابية»، وأطلق موجة جديدة من الحراك في الجزائر، استمر في تراكم وزخم احتجاجي مطرد، مؤشرا بذلك على جدية الحراك وعدم موسميته. في زيارة طويلة لإحدى الدول الديمقراطية، كانت لي رفقة مع رئيس جامعة جزائري، وعند ندوة ناقشنا فيها الحراك الديمقراطي في الوطن العربي، أثار سخرية الجميع، وبشكل خاص الباحثين الأجانب، حين زعم بأن الجزائر دولة ديمقراطية، وأنها هي ليست في حاجة إلى ربيع ديمقراطي لكي تنتقل إلى الديمقراطية. كان الظن عندي، أن الرجل ربما يتحدث من واقع الخوف من تتبع حركاته وسكناته، لكن، في لحظات الدردشة الفردية الودية، التي في الغالب ما يبوح فيها المتخوف ببعض أفكاره، تفاجأت أن الرجل يعيد الكلام نفسه، ويذهب إلى أن الجزائر هي أحسن ديمقراطية في الوطن العربي، ويتابع ليثير استفزازي: «وأفضل من النظام السياسي المغربي»!! صفة الاستواء النفسي والفكري قد يفقدها البعض، لكن، حين تستقرئ أوضاعا مشابهة، تدرك أن المشكلة عميقة، وأن ثمة سيكولوجية مرضية تمت صناعتها بعناية من لدن النخب المتحكمة في الجزائر، فأضحت تشكل جزءا مهما من المزاج الجزائري. بكلمة، إن هيمنة سيكولوجيا «الانتشاء» الوطني، وهيمنة «سيكولوجيا الخوف» من تكرار تجربة الألم، هي التي بررت لجوء النخب المتحكمة في الجزائر إلى إنتاج أسوأ سيناريو تعرفه السياسة منذ أرسطو، وهو السيناريو المستفز الذي مس كرامة الشعب الجزائري، فقام لإسقاط أطروحة الحصانة اقتصاصا لوطنيته.