فقد المغرب، أول أمس، المؤرخ زكي مبارك، الذي ووري الثرى بمقبرة سيدي بلعباس بسلا، بعد حياة حافلة بالبحث والتنقيب في التاريخ المعاصر للمغرب، إذ يعدّ مرجعا لا غنى عنه حول الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، وأول من كتب حول جيش التحرير، وعن الصراعات المسلحة بين أحزاب الحركة الوطنية، علاوة على قضايا أخرى تتعلق بإشكالية الاستقلال بين محمد الخامس ومحمد عبدالكريم الخطابي، وأصول الأزمة بين المغرب والجزائر. شيّع مبارك، الذي توفي بعد مرض عضال حدّ من نشاطه الفكري والثقافي خلال السنوات الأخيرة، من قبل جمهور متنوع من محبيه وأصدقائه ومعارفه، منهم الباحثون والجامعيون والمؤرخون الذين اشتغلوا جنبا إلى جنب مع مبارك في منتدى عبدالكريم الخطابي للفكر والحوار، على رأسهم: علي الإدريسي، وعبد السلام الغازي، وعبد الرحمان الطيبي ومحمد العثماني وآخرون ممن مثلوا النخبة المغربية من تخصصات مختلفة. ومنهم رموز تيارات إسلامية وثقافية وسياسية الذين حضروا جنازته منهم الأمين العام لجماعة العدل والإحسان، الشيخ محمد العبادي، ورئيس مجلس الشورى في الجماعة عبدالكريم العلمي، وقيادات أخرى، كما حضر جنازته رئيس المجلس الوطني لحزب الاستقلال وعضو المجلس الدستوري سابقا، شيبة ماء العينين، ورشيد راخا عن التجمع العالمي الأمازيغي. إضافة إلى مقاومين من أعضاء المقاومة وجيش التحرير، ومسؤولين في المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير في جهة سلاالرباطالقنيطرة. علي الإدريسي، صديق الراحل وأستاذ باحث في التاريخ المعاصر، اعتبر أن زكي مبارك غادر الحياة الدنيا و”تحقق حوله شبه إجماع، لأنه كان مؤرخا محايدا”، غير أنه نبّه إلى أن هذا “الإجماع لم يكن متحققا في وقت من الأوقات، لأن زكي رحمه الله كان ينشر حقائق في الصحافة وفي الكتب والمجلات حول المقاومة وجيش التحرير، وهي حقائق لم تكن تعجب بعض أحزاب الحركة الوطنية، خصوصا حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي”. ويعد زكي “أول من تحدث عن الاستقلال الناقص، وحمّل المسؤولية في ذلك لأحزاب الحركة الوطنية التي كانت ضد النداء الذي وجّهه محمد بن عبدالكريم الخطابي من داخل سفارة المغرب بالقاهرة سنة 1957، أيام كان سفيرا فيها عبدالخالق الطريس، قائلا: “إن المغرب لا يستطيع أن يعيش بدون صحرائه”، وكان زكي مبارك أول من نشر هذا النداء المزعج لبعضهم. أما القضية الثانية، التي تميز بها مبارك، يقول الإدريسي، فكان “أول من أعد أطروحة جامعية حول “جيش التحرير”، بينما كانت الأحزاب تتحدث عن حركة المقاومة، وتنكر جيش التحرير، وقد كشف مبارك عيب تلك الأحزاب إزاء هذه النقطة، مستندا في ذلك إلى وثائق مكّنه منها عبدالله الصنهاجي رفيق عباس المسعدي في تأسيس جيش التحرير”. واعتبر عبدالسلام الغازي، أحد مؤسسي منتدى محمد عبدالكريم الخطابي للفكر والحوار، الذي كان زكي مبارك عضوا مؤسسا فيه أيضا، أن “مثل مبارك لا يعوضون، لقد كان صاحب آراء نقدية جريئة، وصاحب مبادرات، ورجل ابتسامة ونكتة”. وأضاف الغازي “التقيت به أول مرة سنة 1991 في جامعة “ليدن” بهولندا، جاء عندي وقال لدي رسالة لك من محمد بن سلام أمزيان، كان قد التقى به في العراق، ومن الجامعة غادرنا إلى الفندق معا، حيث خضنا نقاشات طويلة معا من 9 مساء إلى الثالثة فجرا، ثم التقينا بعد سنوات من ذلك في الحسيمة للمرة الثانية”. وبحسب الغازي، فإن زكي مبارك “كان مثقفا موسوعيا، وصاحب معرفة واسعة في التاريخ والفقه واللغة والأدب والدين، كما كان يحفظ أجزاء من القرآن الكريم، وبرحيله يكون المغرب فقد علما من الأعلام في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وستظل أعماله حيّة شاهدة على موسوعيته وجديته والتزامه، وعلى آثاره الطيبة، رحمه الله”. وكان مبارك قد ولد سنة 1940 بقرية “إدا وسملال” بضواحي تزنيت، لكنه انتقل مبكرا إلى الدارالبيضاء حيث نشأ ودرس. ولج الوظيفة العمومية في وزارة الشبيبة والرياضة، وترقى بها إلى أن عين مديرا عاما، لكن شغفه بالبحث العلمي سيقوده إلى الابتعاد عن الوظيفة نحو الجامعة. عاش طوال حياته في مدينة سلا، إلى أن توفي عن سن 79.