«في حرب»، هو واحد من الأعمال السينمائية الوثائقية الأخيرة التي تتناول الحرب الأهلية اللبنانية. لكنه ليس إنتاجا عربيا، إذ تم بعين أوروبية، حيث الإخراج للزوجين الإيطالي «دانييل روغو» والبريطانية «آبي ويفر». إذ يقدم حكاية الحرب على لسان بعض شهودها العيان. فيلم “في حرب” عمل سينمائي يدخل في جنس الفيلم الوثائقي، ويروي بعض الحكايات المسكوت عنها في الحرب الأهلية اللبناني، ويبرز كيف مارست الطوائف المتحاربة العنف ضد بعضها بعض، وكيف حدث التغير بعد الحرب الأهلية والانتقال إلى السلم والمهادنة. أبطاله من المقاتلين السابقين الذين حاربوا لهذه الطائفة أو تلك، وهم: زياد ماجد، فؤاد أبو ناظر، حسن عوض، نسيم أسد، أسد الشفتري، أمين قمورية وعاهد بهار. في هذا الفيلم الوثائقي الطويل للمخرجيْن الزوجيْن الإيطالي دانييل روغو والبريطانية آبي ويفر، والذي جرى تصويره في بيروت، ثمة جزء مفقود من حكاية الحرب الأهلية اللبنانية يجري عرضه وسماع شهادات أصحابه، وهم ثلاثة مقاتلين سابقين يتحدثون عن زمن الاشتباكات ويفتحون صندوق ذاكرتهم. ويتضمن الفيلم، الذي أنتج السنة الماضية، شهادات أسعد، وهو ضابط استخبارات مسيحي يميني، وعاهد اللاجئ الفلسطيني، ونسيم القائد الشيوعي، وغيرهم ممن كانوا يقاتلون من أجل أحزاب مختلفة، ضد بعضهم البعض، خلال الحرب الأهلية، وتتيح شهاداتهم تصور ثلاث وجهات نظر وذكريات تعطي صورة متعددة الزوايا لتلك السنوات المرعبة. إذ بدأ مشروع الفيلم بالتعاون مع أستاذة علم الاجتماع اللبنانية دانا أبي غانم، المحاضرة في “جامعة مانشستر”، والتي تدرس البنية التحتية في لبنان وكيف تأثرت بيروت بسبب الحرب الأهلية. كان الزوجان ويفر وروغو قد فكرا في المشروع بجمع شهادات من الضحايا والمقاتلين السابقين. ويعود المتفرج، وهو يشاهد هذا العمل، إلى سؤال أساسي، ذلك أنه بخلاف مائتين وخمسين ألف قتيل ومليون لاجئ وألف وسبعمائة شخص في عداد المفقودين، ماذا نعرف عن الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من 1975 إلى 1990، ومازالت البلاد إلى اليوم، تعيش تداعياتها؟ ربما يكون في غياب رواية متكاملة عن الحرب الأهلية اللبنانية، أحد أسباب استمرار حالة ما بعد الحرب في البلاد، والتي تبدو كما لو كانت لانهائية، فإلى اليوم، مازالت أزمة الكهرباء عالقة، والبنية التحتية بائسة، وثمة عشوائية مفرطة في الإعمار، ثم إعادة الإعمار، والتي تظهر كما لو كانت مهمة مستحيلة وليس لها قرار. ليس ثمة رواية واحدة للحرب في لبنان، كما يفهم من الفيلم، كأنما ثمة تنافس على ذاكرتها، وكأنما أصبحت الرواية نفسها والتاريخ نفسه ساحة المعركة البديلة. ذلك أن هذا العمل من الأعمال القليلة التي التفتت إلى شهادات المقاتلين، فغالبا ما تتوجه الوثائقيات إلى شهادات الضحايا والسياسيين والقيادات، لكن من كان يمسك السلاح على الأرض فما زال صوته لم يسمع جيدا إلى اليوم. يقدم فيلم “في حرب” شهادات حية ومؤثرة لمقاتلين متطوعين حول الصدمات النفسية والجروح والندوب الجسدية والآثار الاجتماعية. كما أنهم يبوحون بالندم الذي انتابهم بعد سنوات، ويطلبون المغفرة. فضلا عن ذلك، يستند الفيلم إلى أرشيف مادي نادر، ليكشف الدوافع والحوافز التي جعلتهم يقدمون على هذا النوع من الاختيارات الصعبة والعنيفة، والانخراط في معارك مروعة ومخيفة، ودخول غمار نزاعات ذات طابع دولية والانغمار في صراعات من أجل السلطة السياسية، كلها تحولات ساهمت في قلب حياتهم رأسا على عقب. تتحرك أحداث الفيلم، إذًا، بين ذاكرات مختلفة تتباين رواياتها من طرف إلى آخر. لكن الفيلم استطاع بذلك أن يقتنص لحظات حية تكشف مدى تعقد التاريخ اللبناني المعاصر، لكنها تسلط الضوء في الآن ذاته على منظورات تدبير الصراع. ذلك أن هذه المنظورات تتجلى من خلال تلك اللقطات والمشاهد الواردة في آخر الفيلم، تلك المتعلقة بالمسارات التي قطعها كل المقاتلين فيما بعد، وهي تلتقي في نقطة واحدة: كونهم سلكوا طريق العمل السلمي الذي يقضي بنشر ثقافة السلام بين الشباب اللبناني اليوم. من هنا، حتى رواياتهم حول الحرب وقضايا الصراع السياسي والعسكري الذي أغرق منطق الشرق الأوسط برمتها تبين مدى الحذر الذي يجب أن يلتزم به هذا البلد وأبناؤه تجاه كل النعرات والعوامل التي من شأنها أن تؤجج الصراع في أي لحظة.