إذا كانت الخرجة الأخيرة لأبي بكر البغدادي، الزعيم المعلن لتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، قد أكدت أن الإرهاب صناعة قائمة الذات لما تضمنته هذه الخرجة من تكثيف لتقنيات التواصل والدعاية والترميز، حتى كاد العالم يرى في الفيديو الجديد أسامة بن لادن يبعث حيا من عمق المحيط الذي يفترض أنه ابتلع جثته؛ فإنها كشفت، في المقابل، تحوّل الفعل الإرهابي إلى عنصر تأثير مباشر في صنع السياسات الإقليمية والدولية. الرجل الذي غاب عن الأنظار منذ سنوات، ولم يعد يظهر منه سوى صوت منسوب إليه خاطب العالم آخر مرة في شهر غشت الماضي، فيما قتلته وكالات الأنباء الدولية وكبرى جيوش العالم مرات عديدة؛ حوّل كل ما راكمته التحليلات والاستنتاجات والاستنباطات التي ظلت تقذف بكونها مجرد انعكاس لنظرية المؤامرة، إلى حقيقة جلية. فقبل أن يجف مداد البيانات التي صدرت قبل أسابيع معلنة «نهاية داعش»، استدعت التطورات المتسارعة التي شهدتها المنطقة العربية، بانطلاق الموجة الثانية من الربيع العربي، عودة العراب الأول للثورات المضادة، والتنظيم الذي أحال ربيع الشعوب العربية إلى خريف، ليقلل من ثورتي السودان والجزائر، ويدّعي أن «الجهاد» وحده يمكنه أن يمنع ظهور طغاة جدد. فجأة تذكّر البغدادي «ولايات» الغرب الإفريقي وتركيا وخراسان وسريلانكا، وأصبحت الساحة العراقية والسورية مجرد ذكرى جميلة لأرض أقيمت فوقها «دولة الخلافة» المزعومة. لسنا بحاجة إلى قراءة الطالع أو التلصص على فنجان البغدادي لفهم المراد من خرجته الجديدة. لنسترجع فقط ما قام به التنظيم الداعشي في خريطة الفعل السياسي بالمنطقة العربية، قبل وبعد إعلانه قيام «الدولة» المشؤومة عام 2014. في العراق، وبعد سنوات من الاجتياح الأمريكي، وشروع العراقيين في النهوض من تحت الدمار والخراب، وبحثهم عن صيغة لتوافق وطني جديد تخرجهم من عهود الدكتاتورية والحروب والحصار الدولي الطويل، ظهر تنظيم أبو مصعب الزرقاوي، المتفرع عن شبكة القاعدة، والذي سيتحوّل إلى «داعش»، رديفا للمكون السني داخل العراق، كما لو كان سنة العراق لا يعرفون غير التفجير والقتل الوحشي سبيلا لانتزاع حقوقهم ومنع تهميشهم سياسيا. في سوريا، واحدة من أهم الساحات التي حوّلها معسكر الثورات المضادة إلى ساحة لإعدام حلم قيام نظام إقليمي عربي جديد يجمع بين ثنائية حرية الشعوب وديمقراطية الأنظمة، لم يجد بشار الأسد من منقذ ولا مسعف خيرا من تنظيم «داعش» الإرهابي. وبعودة بسيطة إلى روايات من نجا من الثوار ومقاتلي الجيش السوري الحر، سنجد أن هؤلاء لم يكونوا يستوعبون كيف تجتمع عليهم، في اللحظة نفسها، نيران طائرات الأسد المقاتلة وقذائف «داعش» وانغماسيوه. في ليبيا، لعبت «داعش» دور حصان طروادة لمنح الجنرال القادم من عهد القذافي، خليفة حفتر، ذريعة التمدد والزحف على مدن الثوار وحقول النفط. وبفضل «فزاعة» التغلغل الداعشي في ليبيا، حصل حفتر على أولى اتفاقاته الدولية، حين وقّع مع مصر عبد الفتاح السيسي اتفاقية أمنية للعمل معا على مواجهة «خطر الإرهاب». وبعد الخرجة الجديدة للبغدادي، لم يمض سوى أسبوع واحد حتى أعلن «داعش»، أول أمس، تنفيذ عملية إرهابية «ضد» قوات حفتر، مع ما يعنيه ذلك من مبرر لمواصلة الزحف على ما تبقى من ليبيا. في مجموع المنطقة العربية، قدّمت «داعش» خدمتين أساسيتين لمعسكر الثورات المضادة؛ أولاهما تخويف المجتمعات من مغامرة الخروج والتظاهر والمطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي، السقوط في مستنقع الإرهاب والفوضى. أما ثاني خدمة جليلة قدّمتها «داعش» للثورات المضادة، فهي سحب البساط من تحت أقدام التيارات السياسية المنتمية إلى الإسلام السياسي، والتي أبانت انتخابات ما بعد الربيع العربي أنها الخيار الديمقراطي الأول لجل دول المنطقة، وإلباس الحركات الإسلامية تهمة الإرهاب والتطرف، وهو ما استغلته العديد من الأنظمة، العريقة في الدكتاتورية أو الآتية عبر الانقلابات، لتصفية الأحزاب الإسلامية أو قص أجنحتها على الأقل (حالتا مصر وتونس). ما فعله البغدادي وتنظيمه، على مدى السنوات الخمس الماضية لإفشال ومحاصرة الثورات الشعبية، هو نفسه ما خرج للقيام به اليوم. فهل سينجح «نبي» الثورات المضادة ومن وراءه في تكرار السيناريو نفسه؟ لا شك أن التاريخ لا يعيد نفسه، خاصة بهذه السرعة القياسية، لكن «شيعة» البغدادي بدوا في الشهور الأخيرة عازمين على اقتراف أبشع ما يمكنهم اقترافه، لمنع انبعاث الربيع.. حفظ لله الجميع.