اعتمد السلاطين المغاربة عبر التاريخ في تسيير شؤون الدولة، على ثلة من الرجال، إما لانتمائهم العائلي أو لكفاءتهم وولائهم.. وهكذا فقد تميز تاريخ المغرب المعاصر بظهور هؤلاء الرجالات حول الملك، الذين تركوا بصماتهم على مسار الحياة السياسية ببلادنا، كما كان لهم تأثير فعلي على توجيه بوصلتها.. كتاب “رجال حول الملك”، لمؤلفه محمد الأمين أزروال، يرسم بروفيلات للعديد من هؤلاء الشخصيات التي اخترنا نشر ملخصات عنها. يعد من الشخصيات السياسية التي تركت بصمتها على مسار تاريخ المغرب المعاصر، فهذا الرجل الذي مارس العمل السياسي في سن مبكرة، سليل عائلة شريفة ينتهي نسبها إلى مولاي عبد لله أمغار شيخ ومؤسس زاوية تامصلوحت، القريبة من مراكش ودفين مدينة الجديدة الذي يقام له بها موسم سنوي يحج إليه الكثير من المريدين والمحبين من مختلف مناطق المغرب، ويستمر لمدة أسبوع كامل، ويتصادف مع موسم فصل الصيف، حيث يغري شاطئ الجديدة الجميل والمتميز بالطقس المعتدل سكان المناطق الشديدة الحرارة بشد الرحال إلى هذه المدينة الشاطئية الجميلة. وقد ازداد مولاي عبد لله إبراهيم بقرية تامصلوحت سنة 1918 ودرس القرآن وحفظه بكتاب خاله وهو ابن 12سنة، ليلتحق بمدرسة حرة بمراكش أسسها الباشا الكلاوي سنة 1922، ومارس مهنة التدريس كمعلم قبل أن يلتحق بجامعة ابن يوسف التي كانت مناهج دراستها شبيهة بمناهج جامعة القرويين، يتولى التدريس فيها نخبة من العلماء الأجلاء أمثال شيخ الإسلام مولاي العربي العلوي والعالم الجليل الرحالي الفاروقي والزهراوي وغيرهم من العلماء الكبار، وحصل على شهادة العالمية سنة 1945، ليلتحق بجامعة السوربون بباريس لدراسة الفلسفة، وهو ما ساهم في تفتحه على مختلف المذاهب الفلسفية (الماركسية-الوجودية) وغيرهما من التيارات المذهبية والسياسية التي كانت تعج بها الساحة الثقافية الفرنسية آنئذ، وكان لذلك تأثيره على فكر الرجل، وحيث إنه حمل معه إلى فرنسا هم بلده، فقد انخرط في العمل من أجل القضية الوطنية، حيث كان له نشاط متميز داخل صفوف الطلبة كما لعب دورا رائدا داخل التنظيمات الطلابية المغاربية، وهناك بدا اهتمامه بالعمل النقابي، حيث ساهم في نشر الوعي بين أوساط العمال المغاربة الذين توافدوا على فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية بكثافة كبيرة، للمساهمة بسواعدهم في إعادة بناء فرنسا التي دمرتها الحرب بعد أن قدم الجنود المغاربة أرواحهم في سبيل تحريرها من يد النازية تلبية لنداء رمز الأمة السلطان محمد بن يوسف. في سنة 1949 حصل مولاي عبد لله إبراهيم على الإجازة، ليعود إلى وطنه لمواصلة العمل السياسي دفاعا عن القضية الوطنية، وحيث إنه كان من الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، ومن المؤسسين لحزب الاستقلال، فقد اضطلع بمهمة الإشراف على جريدة العلم لسان حال الحزب، ونظرا لحجم نشاطه السياسي كصحفي وكمسؤول في الحزب، فقد تعرض للاعتقال من طرف السلطات الاستعمارية عدة مرات، كما تم نفيه إلى تارودانت، وظل ذلك حاله إلى أن رضخت فرنسا مكرهة تحت اشتداد العمليات الفدائية وما تلاها من هجوم جيش التحرير على عدد من المراكز الاستعمارية في الريف والأطلس المتوسط، للإرادة الوطنية. عين مولاي عبد لله وزيرا للأنباء في حكومة مبارك البكاي، كما عين وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية في حكومة بلافريج، وسنة 1958 تقلد منصب رئيس الحكومة وفي عهد حكومته التي شغل فيها عبد الرحيم بوعبيد نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد والمالية، اتخذ المغرب قرارات سياسية وسيادية هامة وجريئة، كانت تروم في مجملها استقلالية القرار الاقتصادي عن فرنسا الدولة المستعمرة، وكانت اللبنة الأولى في هذا الاتجاه هي إنشاء بنك المغرب الذي خلف البنك المخزني وإصدار عملة الدرهم التي خلفت عملة الفرنك لوضع حد لتبعية العملة الجديدة لمنطقة الفرنك الفرنسي. لكن لم يكتب لحكومة هذا الرجل الوطني أن تعمر سوى سنة وبضعة أشهر، ومع ذلك حققت في هذا الظرف الزمني القصير بما لم تستطع حكومات متعاقبة الإتيان به في عقود من الزمن، وإليها يعود الفضل في رسم معالم الطريق لمغرب مستقل في قراره السياسي والاقتصادي، إذ هي التي وضعت الأسس الأولى لإقلاع اقتصادي متحرر من أي تبعية للدولة المستعمرة فرنسا، ففضلا عن إنشاء بنك المغرب وإصدار عملة وطنية، عمدت إلى إنشاء بنك الإنماء الاقتصادي “BNDE” ومكتب التنمية الصناعية وكذا البنك المغربي للتجارة الخارجية “BMCE”، وغيرها من المؤسسات التي تصب جميعها في اتجاه جعل المغرب دولة ذات سيادة اقتصاديا وسياديا كذلك. ومنذ غادر مولاي عبد لله إبراهيم الحكومة، تفرغ للعمل السياسي موجها وناصحا في إطار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ظل وفيا له إلى آخر رمق من حياته، رغم انسحاب رفاق الأمس وتشكيل الاتحاد الاشتراكي فيما بعد 1975، كما بقي وفيا وسندا للمنظمة النقابية الاتحاد المغربي للشغل إيمانا منه بوحدة العمل النقابي، فهو رجل مبادئ لا يغير مواقعه، حيث واصل معركة الدفاع عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من موقعه، ولم تنل منه مختلف الأحداث، كما لم يتزحزح عن موقفه المبدئي تجاه التجارب الديمقراطية التي عاشها المغرب والتي قاطعها جملة، فهو الذي بادر إلى استنهاض همم رفاق الأمس، لتشكيل الكتلة الوطنية كرد فعل على دستور 1970، الذي اعتبره انتكاسة عن المسار الديمقراطي وتراجعا عن المكاسب التي أتى بها دستور 1962، وصدق حدس الرجل حيث لم يلبث المغرب أن تعرض لهزات كادت أن تعصف به، وكانت محاولة الانقلاب الأولى 1971 والثانية 1972. في غمرة هذه الأحداث جاء دستور 1972، الذي لم يأت بجديد، بحيث بقيت دار لقمان على حالها، كما ظل موقف مولاي عبد لله منه هو نفس الموقف، حيث اعتبره استمرارا لروح سابقه. أما عن زهد الرجل في الحياة فحدث ولا حرج، فهو الذي رفض تقاعد رئيس الحكومة المحترم، واكتفى بتقاعد الأستاذ الجامعي وهي المهنة الذي ظل يمارسها لعدة سنوات، إذ تخرج على يديه عدد من الكفاءات التي تقلدت مهام رفيعة في هرم الدولة، كما أنه من شدة زهده لم يكن يقبل أن يحيل ملفات مرضه هو أو زوجته على التعاضدية لتعويضه عنها، رغم أنه ظل يؤدي واجب الانخراط في صندوق المؤسسة طيلة حياته العملية. ويحكى أنه ذات مرة استقبل الملك الحسن الثاني أعضاء الكتلة الوطنية، حيث خص مولاي عبد لله إبراهيم الذي كان من بينهم باهتمام خاص، ولدى مغادرتهم القصر وكان الوقت شتاء، وضع جلالة الملك سلهامه على ظهر مولاي عبد لله وهو تعبير ملكي له رمزيته، حيث يدل على الرضا، إلا أن مولاي عبد لله أصر على أن يعيد السلهام مع السائق الذي أوصله إلى منزله، متناسيا التقاليد المخزنية أن الهدية لا ترد، وبالأحرى هدية الملوك؟!.