قال المفكر عبد العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. في رواية “أوراق” تتدثر السيرة الذاتية بتقنيات السرد الروائي، وهي تصف “إدريس”، وتبرز شخصية المثقف المغربي بتمزقاته والعوامل المؤثرة. في نظرك لِم ركز الروائي على جانب من أزمة المثقف، بدل السيرورة المفضية إلى أزمته؟ _ إن ما يحسن وعيه بداية، كون جنس السيرة الذاتية أو الغيرية، يعمل على توظيف مكونات الكتابة الروائية. إذ، ما من روائي قصد أم لم يقصد، يختار شخصية في ضوئها يهندس عالمه الروائي. والأصل أن في الاختيار تتضمن عناصر ذاتية تطابق حياة المؤلف. وكأن الشخصية تتماهى والمؤلف. نتمثل هذا في المتن الروائي ل”محمد زفزاف”، كما في متن الروائي الراحل “غالب هلسا”، حيث الشخصية الفاعلة مدار الأحداث تحمل كاسم علم “غالب”، وهو ما يجعل معظم أعماله الروائية بمثابة رواية واحدة طويلة تتباين وتختلف حسب الهجرات والانتقالات (العقابية) من فضاء لآخر. ويمتد التصور ليشمل تجربة الروائي السوري “حيدر حيدر” من “الزمن الموحش” إلى “وليمة لعشاب البحر”. على أن التباين بين السيرة الذاتية الموظفة لمكونات الرواية، والرواية ذاتها يرتهن للمؤلف، إذ في إثباته التجنيس تحدد هوية النص كما يعيها مبدعه، وبالتالي، يفترض في التلقي استقبالها. ونستدعي في هذا المقام تجربة الروائي الفلسطيني “جبر إبراهيم جبرا” قبل تدوين سيرته وبعد تدوينها. فقبل التدوين طولب بكتابة سيرته الذاتية، فرد معتبرا أن تفاصيل من سيرته احتوتها رواياته: “صراخ في ليل طويل”، “السفينة”، “صيادون في شارع ضيق”، و”البحث عن وليد مسعود”. إلا أنه وبعد زمن دوّن سيرته الذاتية في كتابين: “البئر الأولى” و”شارع الأميرات”. إذ الملاحظ في التجربة الروائية العربية الحديثة، هيمنة خاصة التماهي، ففي الغالب تكون الشخصية الرئيسة مثقفة تحيل على المؤلف وتنتمي إلى اليسار، وتحلم بالتغيير، من منطلق أن المثقف الملتزم ينشد _ وباستمرار _ الوضع الأفضل والأحسن. ولذلك، فالحديث عن شخصية “إدريس” لا ينبغي حصره بالتحديد الدقيق في “أوراق”. وإنما رصد تفاصيله من قصة “الغربة” إلى السيرة الذهنية “أوراق”. فالأمر يتعلق تلقيا برباعية _ كما أسلفت _ ناظمها الرئيس شخصية “إدريس” كنشأة، تكوين وكثقافة جامعة. أي من فضاء التقليد إلى التحديث ومن زمن التخلف والركود إلى وتيرة السرعة والتسارع. على أن بداية الأزمة، وليدة صدمة العودة إلى ما مثل ويمثل الأصل. إذ كيف يتأتى التفكير في الإجابة عن أسئلة النهضة والتقدم. ولاحظ _ وإلى اليوم _ لم يفكر في إنجاز دراسة أو بحث في موضوع فكرة التقدم في الرواية المغربية أو العربية. فسيرورة “إدريس” المثقف سيرورة التعبير عن جيل مُني بالفقدان والإحباط والإخفاق في سياق في واقع عصي ليس على التغيير، وإنما الفهم والتفسير. إلى كون أزمة “إدريس” صورة عن أزمة مجتمع برمته. المجتمع الذي يرى في المثقف نموذج النخبة المعزولة والصامتة والحاملة. وإذا ما تجاوزنا الوصف إلى الحديث عن التحليل، نجد الأستاذ “عبدالله العروي” من خلال آثاره كاملة، تطرق للحديث عن وضعية الثقافة العربية كما المثقفين، ولئن تحقق التركيز في كتابه “أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية؟”، كما في الفصل الممتع والمركز والدقيق الوارد في كتابه: “ثقافتنا في ضوء التاريخ”، حيث يستدل بالوصف في سياق التحليل. وأمثل بنموذجين: الأول عن “دستيوفسكي” والثاني عن “يحي حقي” و”نجيب محفوظ”: ” رمز هذه الحالة هو المزدوج (عنوان قصة “دستيوفسكي) الذي يعبر عن وحدانية المثقف، وسطحية الثقافة المستعارة، والبحث عن الأستاذ الملهم الذي بقي مرتبطا بالثقافة الشعبية الأصلية.”(ص/173) “قد يقال ما علاقة هذا بالوضع العربي؟ لنقرأ قنديل أم هاشم ليحي حقي أو ثلاثية نجيب محفوظ ونلاحظ في الحين أن العقدة تدور حول مشكلة المثقف المنعزل الذي يحدوه الحنين إلى وحدة المجتمع الأصيل” (“ثقافتنا في ضوء التاريخ”. ص/173) فالشاهدان، وبرغم الانتزاع من سياق التحليل، يفيان القصد والغاية بخصوص وضعية المثقف.