قال المفكر عبد الله العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. طرحت في أحد مقالاتك عن رواية «اليتيم» هذا السؤال: «أترى في فضاء البيضاء اليوم ما يغري بالإبداع وما يوحي بالكتابة؟» لكنك لم تجب عنه. في نظرك، كيف تتجلى مدينة الدارالبيضاء في روايات العروي؟ كتبت عن رواية “اليتيم” مرتين. الأولى في سياق تحليل الرباعية ككل. وهو ما صدر في كتابي “عبدالله العروي وحداثة الرواية” (المركز الثقافي العربي/ بيروت/ 1994). ولهذا المؤلف الثالث في سياق مؤلفاتي حكاية تروى لاحقا. (وهو كتاب تجاهله (علماء الرواية) المغاربة، حيث يفيدون منه دون ذكره، فيما الطلبة والأساتذة من تونس والجزائر يوردونه في بحوثهم بالإشارة الدقيقة). وأما المرة الثانية، فدعيت في إثرها من كلية الآداب/ جامعة عين الشق لإلقاء عرض عن حضور فضاء الدارالبيضاء في الرواية، واخترت التمثيل ب”اليتيم”. إلا أن الإجابة عن السؤال تقتضي العودة إلى موضوع أوسع يتمثل في العلاقة التي تربط الرواية بالمدينة. وهنا أستدعي الفصل الموسوم ب”العرب والتعبير عن الذات” من الكتاب العمدة “الإيديولوجية العربية المعاصرة”: في صيغته الجديدة، بالإضافة إلى نص رواية “اليتيم”، موضوع السؤال. ذلك أن ما أبداه الأستاذ “عبدالله العروي” من انتقادات بخصوص التعبير- وتحديدا جنس الرواية- طرح بدائل له/ وعنه في إبداعه الروائي. فما انتقد تحليلا، أرسيت قواعد بدائله وصفا. إذ يرى: “لم يخطط بعد أحد منا لكتابة رواية جامعة، بصيغة الغائب أو المتكلم، تنعكس فيها بنية المجتمع. وتتزاحم فيها أشكال وأساليب السرد المختلفة، وربما المتناقضة، تماما كما تتصارع في المجتمع هيآت وطبقات.” (ص/240) فالتصور الإبداعي كما تمثل وصفا، إنجاز رواية طويلة. وهو ما أقدم عليه الروائي “عبدالله العروي”. رواية تقول الحياة تاريخا، اجتماعا، فكرا وفنا. رواية ترتهن لنواة الزمن ماضيا، حاضرا ومستقبلا. وحتى يستكمل التصور طرحت فكرة الفضاء، بحكم أن نشأة الرواية ارتبطت- أساسا- بالمدينة الكبيرة. المدينة التي تفيض حياة، علاقات وصراعات وقيما. “إن المدينة الكبيرة هي مجال المطولات الروائية، لأنها تجمع في حيز محدود المركز والآفاق، الإنسان وسوابقه، الخلق المكتمل وتخطيطاته الأولية.” (ص/240) فالفضاء الرحب في فساحته دلت عليه مدينة الدارالبيضاء، بما هي صورة عن حداثة موازية لحداثة التعبير ومقابلة للتقليد كما عكسته الصديقية. فالبيضاء في روايات “عبدالله العروي”، هي الزمن الجميل مجسدا في قيم التنوع الإنساني، الاجتماعي والثقافي. فالرواية تؤرخ للفضاء كما الحياة، ولوجود الكائن فيها مرحلة. وهو ما يطابق أيضا ما يطالعنا في روايات “محمد زفزاف”. وكنت فكرت من قبل في إنجاز دراسة عن مدن ارتبطت بأسماء كتاب إما نشأة أو عيشا: “أزمور” المرتبطة ب”العروي”، كما البيضاء ب”زفزاف”، و”فاس” ب”عبدالكريم غلاب” و”محمد عزالدين التازي”، و”طنجة” التي باتت لا تذكر إلا مقترنة باسم “محمد شكري”. وأما عربيا، فيرد الحديث عن “القاهرة” من خلال “نجيب محفوظ” كما “الإسكندرية” المستدعاة في نصوص روائية ل”إدوار الخراط”، “إبراهيم عبدالمجيد” و”يوسف زيدان”، وعالميا في “رباعية الإسكندرية ” ل”لورنس داريل”. بيد أن ما يحسن أن يضاف إلى المستوى الروائي العالمي تمثل مدينة “لشبونة” في أكثر من رواية عالمية ولأكثر من كاتب، وهو ما يدفع للمقارنة والتأويل: “الشتاء في لشبونة” ل”أنطونيو خوسيه مولينا”، “قطار الليل إلى لشبونة” ل”باسكال مرسييه”، “ليلة لشبونة” ل”إيريك ماريا ريمارك” و”قصة حصار لشبونة” للروائي البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل (1998) “خوسيه ساراماغو”. وإذا عدنا لرواية “اليتيم” (1978) وهي النص الثاني بعد “الغربة” (1971)، حيث يحضر- وبقوة فضاء الدارالبيضاء- فإن أول ما يثير الملاحظة النقدية النبيهة التي استوقفت الناقد والروائي “محمد برادة”، والمحيلة على حضور التحليل في الوصف، الفكري في الخيالي (على العكس مما ذكر سابقا). يرد في رواية “اليتيم” هذا السؤال المنفي: “أليس من الغريب أن يكون رائد الأدب العربي المعاصر أعمى وأن يكون أحد كبار العصر الكلاسيكي أيضا أعمى. قد تكون صدفة. وقد تكون إشارة إلى حقيقة دائمة وهي أن الأديب العربي غير مطالب بالاطلاع على العالم الخارجي، وحسبه الانغماس في اللغة.” (ص/57) ف”طه حسين” الأدب العربي و”بورخيس” العصر الكلاسيكي، كلاهما يطرح سؤال علاقة الكتابة بالعمى، اللغة بالواقع. إذ في النظر إلى الواقع والرؤية إليه بالمشاهدة، تستجلي التفاصيل الدقيقة وتستعاد اللحظات القوية.