تتصاعد مؤشرات ومظاهر انتظارية غير مُطمئِنة، تجتاح المشهد السياسي والحزبي الوطني، وتُنذر بمزيد من تبديد الرصيد الذي حصّله المغرب خلال السنوات الماضية، التي تميزت بمبادرات وُصفت بالجريئة، وبعروض سياسية لقيت التفافا ملفتا، من قبل النخب وعموم المواطنين. صحيح أن المشاكل الاجتماعية بالأساس، كثيرة ومعقدة، بل إنها متجددة ويصعب الحديث عن إيجاد حلول جذرية لها، وصحيح أن ضغوط التحولات الدولية قائمة ومتسارعة، بل إنها لم تتوقف في أي مرحلة سابقة، لكن ظل المغرب سلطة وأحزابا وصحافة ومجتمعا مدنيا، يتفاعل ويتدافع، من خلال طرح أفكار ومقاربات، وإعادة الحيوية إلى النقاش السياسي حول قضايا عمومية، تلامس حاضر ومستقبل “الجماعة الوطنية”، إذا جاز التعبير. هذا التفاعل أو التدافع، الذي ميز تاريخ المغرب في الكثير من الفترات، أقربها فترة ما بعد “20 فبراير 2011” إلى غاية “15 مارس 2017″، مكّن البلاد من تجاوز الكثير من المطبّات والعقبات، ورسم مسارات لا يمكن إنكار جوانبها المشرقة، لدرجة أصبح الحديث عن المغرب مقرونا بلفظة “الاستثناء” و”النموذج”، على الرغم من أن الاختيارات السياسية لم تتقدم بما يكفي، والاختيارات الاقتصادية التي توفرت لها شروط التنزيل، لم تكن كلها صائبة، ولم تستطع التقليص من هشاشة الوضع الاجتماعي الذي تعيشه فئات عريضة من الشعب، التي اقتنعت بأن مشاركتها ومساهمتها في المجهود الوطني للإصلاح، قد يكون بالتضحية، على أن يتم الالتفات لها أثناء جني عائد هذا “المجهود الإصلاحي”. غير أن مع الأسف تَبيّن في كل مرة، أن هذه الفئات ينمو في وجدانها الجمعي، أنها بتضحياتها لصالح استقرار الدولة، تقع ضحية خذلان، أو ربما تضليل، يغذيهما غياب عروض سياسية جادة، تتوجه إلى مكامن الخلل الحقيقية، وتعبئ الطاقات لوضع قطار الديمقراطية الضامنة لإتاحة الفرصة أمام الجميع للإدلاء بالرأي والمشاركة في اختيار منتخبين يعكسون توجه المجتمع ويدافعون عنه، وقطار العدالة الاجتماعية الضامنة لاستفادة كل ذي حق من حقه في ثروات البلاد، والضامنة لحفظ كرامة الطبقات المحرومة والمهمشة، على السكة الصحيحة، حتى إذا توقف لسبب من الأسباب، يمكنه معاودة السير في الاتجاه الصحيح، متى توفرت الظروف والشروط. في هذه المرحلة، المغرب أُصيب ب”عقم سياسي” واضح، لعل أهم أعراضه الاعتراف الرسمي باستنفاد ما يطلق عليه النموذج التنموي لأغراضه، ودعوة جلالة الملك الجميع إلى المساهمة في إيجاد نموذج جديد، يأخذ بعين الاعتبار التحولات الجارية في العالم وفي المجتمع المغربي أيضا. إننا أمام وضعية لا سبيل لتجاوز تعقيداتها، إلا بعرض سياسي واقتصادي جديد، يضع غايته معالجة الإشكالات الاجتماعية بجدية، ومثل هذه العروض وإن كان الجميع معني بها أفرادا وتنظيمات، إلا أن الأحزاب السياسية باعتبار أدوارها ووظائفها الدستورية، تبقى الأكثر تحملا للمسؤولية في المبادرة إليها، وربما هذا ما دفع الملك إلى الإعلان في افتتاح السنة التشريعية الجارية، عن رفع الدعم العمومي المخصص للأحزاب. الانتظارية التي تطبع مواقف الأحزاب السياسية، من أعراض العقم السياسي الذي تعيشه البلاد، لدرجة أن سؤال “ماذا تفعل الاحزاب اليوم؟” يبقى سؤالا مشروعا، بل وعنوانا يصف حالة الانتظارية هاته، بحيث لم يعبّر أي حزب عن استيعابه لما يجري، ولما ينتظر المغرب من تحديات جارفة، ربما الاستثناء الوحيد هو ما يدندن حوله حزب التقدم والاشتراكية، وبالتحديد تيار أمينه العام نبيل بنعبدالله، بحديثه بين الفينة والأخرى، عن ضرورة إيجاد “نفَس سياسي” جديد، أما دونه، فلا حزب استطاع إلى اليوم أن يقدم عرضا أو يطلق مبادرة، وكل ما يتابعه المواطن المغربي ليس سوى ارتباكا واهتماما بالذات، أو سباقا انتخابي في الوقت غير المناسب، أو محاولات الهاء وتشتيت انتباه، أو خداعا ووضعا ل”العصا في العجلة”، أو القيام بالمناولة لصالح جهات أخرى! دعونا من أسطوانة استهداف الأحزاب والتحكم فيها وضرب استقلاليتها، لأن السفن لا تغرق في البحار بسبب المياه المحيطة بها، بل بسبب تسرب المياه إلى داخلها!.