قال المفكر عبد العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. هندس الروائي “عبد لله العروي” نص “اليتيم”، بتوزيع جسده على فضاءات: البيضاء، الصديقية، مراكشوالبيضاء. والواقع أن الهندسة تقود إلى الملاحظات التالية: 1/ بدل التوزيع المتمثل في أسماء شخصيات مثلما سيحصل في النص الأخير “الآفة”، اعتمدت الفضاءات. 2/ يوحي التوزيع بفكرة السفر، أي التداخل بين جنس الرواية وأدب الرحلة، ثم إن السفر انتقال على مستوى القراءة من إيقاع إلى ثان، مما يربط النص بالبعد الموسيقي للكتابة الروائية. 3/ جاءت بنية النص مغلقة: من البيضاء وإلى البيضاء. واللافت أن دائرية النص تطالعنا على السواء في قصة “الغربة” (وهو ما يقتضي بحثه). إذ تبدأ على الصيغة التالية: “الفقيه يترنم”. – هل أنت خارج هذه الليلة. – قلت: – نعم. – وهكذا ستكون الليالي على التوالي، خروج دائم وانتظار دائم…” (“الغربة”. ص/7) وتنتهي ب: “الفقيه يرتل”. وعلى باب مسجد الزيتونة يقف شعيب ويرتفع صوت قراء الحزب بعد صلاة العشاء: “قد سمع.” فيجلس إلى الأرض بعدما هم بالخروج متمتما لنفسه: أي شيخ يقود إلى بر النجاة؟ ثم يأخذ حذاءه ويرجع ليقضي ليلته بين أساطين المسجد.” (“الغربة”. ص/147) فدائرية قصة “الغربة” إحالة على رمز التقليد في استمراريته، بينما رواية “اليتيم”، التأريخ لفضاء البيضاء قمة تحديثه وليس حداثته. وهي التأريخية التمثيل عن مرحلة من حياة المدينة والذات. ذلك أن الروائي “عبد لله العروي” كتب عن بيضاء الستينيات والسبعينيات. كتب عن المناخ، الجغرافية والرمزية التاريخية في توثيق بمثابة شهادة عن مدينة وميدان يغري بالكتابة، فيما اليوم يتهاوى عن عمد وقصد. (قال لي الباحث والدارس العراقي “خزعل الماجدي”، ونحن نرتب الخطو على امتداد شارع محمد الخامس: في الدارالبيضاء، أنت تشعر بأنك في مدينة تماثل المدن الأوروبية في أكثر من ملمح ومظهر). والواقع أن كتابة الروائي “عبد لله العروي” عن فضاء البيضاء يتوازى فيها الماضي كذاكرة والحاضر كإخفاق جسدته العلاقة و”مارية”. من ثم يتحول السفر في الواقع (الخارج) إلى سفر في الذات (الداخل). يقول الأستاذ “العروي” عن فضاء البيضاء مستدعيا أمكنة عرفها وتعرف عليها، وبالتالي استعادها كتابة وبالاحتكام للمقارنة بمدن وعواصم مماثلة: “.. وأنا أحببتها منذ طفولتي في صور متعاقبة: القنصلية، درب بوطويل، مقاهي فردان، درب الإنجليز، سينما القوس، طريق المسبح البلدي. كنت أقول إنها الإسكندرية وبيروت في حيز واحد. أنا فيها وإليها إلى الأبد.” (“اليتيم”. ص/ 123) وكما تستدعى الأمكنة، تتمثل اللحظة التاريخية لتبرز بأن ما من مدينة إلا ولها دور في التاريخ يفرض على الوجدان ذكره، من منطلق كونه جزء من تاريخ المغرب، وبالتالي من تاريخ المقاومة ضد المحتل. “في هذه المنطقة بالذات انتصب فرسان مديونة في بداية القرن يراقبون ما يجري داخل السور. لنتصور رئيس البارجة وقائد الجند ينظران عبر المنظار المكبر. الفرسان المتصافين على الكدية في الضباب: صورة مؤثرة لم تسجل بعد.” (“اليتيم”. ص/ 144) إن العلاقة بالفضاء، يجسدها الوصف الشامل. الوصف المنتج للمعنى الشعري الشاعري وفق الترتيب البلاغي الذي يشعر المتلقي وكأنه من يسافر، يتقصى ومن يرى أمكنة (قد) يكون خبرها بالمشاهدة والمعاينة، أو السماع. والواقع أن الروائي “عبد لله العروي” يكتب المشهد بالعين السينمائية. لنتأمل مثلا رواية “غيلة”، حيث يستحضر فضاء فرنسا: “… مشى طويلا إلى أن أدرك زقاق غاسندي. سار في الظلام لا يزاحمه أحد، تعترضه من حين لآخر سيارة قادة من مونبارناس في اتجاه باب أورليان. لحق أخيرا زقاق فروادفو. كيف اختارت نيكول بلانشار من بين كل أزقة الحي أكثرها حزنا وكآبة ؟ هل كان لها الخيار؟ طبعا تحت الخضرة ومقبرة مونبارناس مخضرة في كل الفصول. عاشت أعوام الطفولة والصبا على شاطئ المحيط تسمع باستمرار رياح الغربي تمهمه والأمواج تتلاطم. تنام على دقات الكنائس المؤذنة بفواجع البحر. الموج مقبرة البروطانيين فلا عجب أن لا تنفر نيكول بلانشار البروطانية من جوار الموتى.” (“الفريق”. ص/ 150)؟ فالوصف في كتابات الروائي “عبد لله العروي”، والكتابة السينمائية وأثرها في كتاباته، مبحثان يفرضان التأمل والتفكير (ونستحضر هنا “أوراق”) إذ وكما ألمحت سابقا، فإن تجديد قراءة الوصف، بمثابة تجديد للرؤية النقدية وللتأويل المفتوح على التعدد. يرد في تقديم مسرحية “رجل الذكرى”: “المرء لا يتعلم الكتابة إلا بالكتابة.” (ص/6).