صديقي حسن؛ لعلك تذكر المرة ما قبل الأخيرة التي التقينا فيها، وكيف ذهب بنا النقاش إلى رواية ميلان كونديرا «الخفة اللامحتملة للكائن»، وتحديدا إلى فكرة العود الأبدي (le retour eternel)، التي تناولها كونديرا بذكاء إبداعي مدهش، وكيف أنك قدمت تفسيرا لهذه الفكرة المجنونة التي طورها فريدريك نيتشه وأربك بها الفلاسفة، وقلتَ إن «العود الأبدي» تعني، من جملة ما تعنيه، القدرة على استساغة التاريخ السيئ والمؤلم من خلال إعادة إنتاجه أدبيا وفنيا. صديقي حسن، الآن، وأنا أقرؤك تُعلق على ثرثرة المقرئ أبوزيد، المليئة بالحماسة والبلاهة، في حقك، تذكرت تلك الرواية، وما قاله كونديرا عن فكرة أخرى أجدك غارقا فيها حتى الأذنين، هي «الكيتش». يقول الروائي التشيكي: «كلمة «كيتش» تعني موقف الشخص الذي يُريد أن ينال إعجاب الآخرين بأي ثمن، أن ينال إعجاب أكبر عددٍ من الناس. لكي ينال المرء إعجاب الآخرين، عليه أن يُؤيد ما يودّ الجميع سماعه، عليه أن يكون في خدمة الأفكار الجاهزة. الكيتش هي ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان». إن ما قام به المقرئ أبوزيد ليس سوى دعاية مشوهة لكتابك «رواء مكة» الذي نفد من المكتبات بعدما تهاطل عليه نوع ثالث من القراء، ليس بحثا عن أديب ومثقف خارج من دواليب السلطة كما كان الأمر مع قرائك الأولين، أو بحثا عن كاتب جيد كما يُفترض في قرائك الثانيين، بل عن مدمن خمر ومنحرف، فكريا وسلوكيا، تائب! إنك، يا صديقي، تعرف أن الأكثر مبيعا ليس هو الأكثر أهمية، وإلا كانت كتب الطبخ، التي تحقق أرقاما قياسية، أهم من كتب الفكر والفلسفة والعلوم التي لا تكاد تراوح مكانها في الرفوف. لقد كان حريا بك يا صديقي أن تقول، وأنت تثني على ما صدر في حقك من هدر بلاغي، إنك أديب وأستاذ للعلوم السياسية، ولست فيلسوفا، كما تكرر ثلاث مرات في كلام المقرئ، وإنه لم يسبق لك أن كتبت حتى مقالة، بله كتابا، في الفلسفة، حتى يقدمك الداعية الإسلامي بفهلوة بلاغية، أمام جماعة خليجيين مشدوهين، كصيد ثمين قادته فلسفته ولغاته الخمس! من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام. كان عليك أن تصرخ: «أنا، أيها المقرئ، لم أكن مدمنا، ولن أكون مؤمنا بالمعنى النمطي التبسيطي الذي تفهم به، أيها الداعية، الإيمان والإدمان». لكنك استمرأت، مثل فراشة ضوء، خدَر الإطراء البراق المداهن. واسمح لي يا صديقي أن أخبرك بأنني طالما كنت أحزن لأجلك، عندما كنت أضبطك متلبسا بلعبة الأقنعة؛ محافظا مع الأصوليين، وحداثيا أمام التقدميين. ولطالما تمنيت يا صديقي، في قرارة نفسي، ألا يكون ذلك لعبا على الحبلين، بل قلقَ مثقف ممزق بين حنين الاتصال بالهوية وتوقٍ إلى الانفصال عنها. ومازلت أتمنى ألا يكون تفكيرك تفكير تاجر –والتعبير، مع بعض التحوير، لدوستويفسكي- يسعى إلى إرضاء كل زبائنه بمختلف أذواقهم وحساسياتهم. واسمح لي، صديقي العزيز، أن أذكرك بأنني كنت قد ساءلتك عن سر استثنائي من كتابك «رواء مكة»، أنت الذي حرصت، دائما، على إهدائي، مشكورا، كل إصداراتك الجديدة، لأجدك تلتف على النقاش بطريقتك الذكية والمرحة. صديقي حسن، اسمح لي أن أستغل هذه المناسبة، التي لم أكن أنتظرها، لكي أعبر لك عن اعتزازي بك صديقا مبدعا، ولا تهمني رحلتك، التي أعرف أنها ليست تعاقبية، من الشك إلى الإيمان، لأنني أعرفك كما قال المتنبي في بيته الرائع: «على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتِي». ولعل ذلك هو ما جعلني أعتبر قلقك أو تقلبك بين الأفكار وحتى المواقع، هو قلق مثقف ومبدع محاط بالحقائق، وليس بالحقيقة الواحدة المغلقة، وأنه كلما سعى إلى القبض على واحدة من تلك الحقائق، استغوته أخرى. لكن، يا صديقي، قلق المثقف لا يعني بحال الانجرار القطيعي واستمراء الإجماع المخادع، بل يقتضي أن نقول: لا، في وجه من قالوا نعم. صديقي حسن، لكم ساءني أن أجد شخصا يقدمك –جهلا أو كذبا- على أنك فيلسوف، وأنك أحد أكبر المثقفين المغاربة المعاصرين، لكنه، في الآن ذاته، يعتبر اللحظة الوحيدة التي مارست فيها تفلسفك، وطرحت فيها أسئلة وجودية، أنها كانت لحظة انحراف فكري! ففي الوقت الذي كنت أنتظر منك أن تتصدى لما صدر عن المقرئ من بلاهة الأفكار الجاهزة، بتعبير كونديرا، خرجت معبرا له عن إعجابك الكبير بما قاله، إلى درجة قلتَ فيها إنك استحييت من الاتصال به لتشكره. صديقي حسن أوريد، أتمنى أن تستقبل نقاشي الصريح معك بضحكتك الطفولية الرائعة. محبتي، وإلى نقاش آخر.