قال المفكر عبد الله العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. كيف نستشف منظوره إلى الحداثة من خلال معالجة الفضاء المديني في رواياته؟ أعتقد بأن الوقوف على منظور الروائي “عبد لله العروي” إلى الحداثة من خلال الفضاء المديني، يفرض تشكيل رؤية شمولية حول المنجز الروائي. وبالتحديد، من قصة “الغربة” إلى “غيلة”. ذلك أن أي روائي يصدر عن تصور إلا وتتضافر في تصوره حصيلة المرجعيات المتضامة التي تقتضي استجلاءها إذا ما روغب تقريب المنظور. على أن تضافر وتضام المرجعيات، يستلزم الإقرار بالتنوع الذي يسمها، من الأدبي في بعده العالمي والعربي، إلى التاريخي، الفلسفي والنفسي. وأرى إلى أن ضيق الحيز، لا يفسح ملامسة هذه المرجعيات برمتها، ولئن يتيح إبداء إشارات دقيقة. بيد أن أول ما يطالعنا في سياق تمثل علاقة الرواية بالفضاء، التركيز- وكما سلف- على واقع المدينة. وكان أحد الباحثين (مارشال بيرمان) في كتابه “حداثة التخلف”، أورد الحديث عن “سان بطرسبورغ”. وبالضبط – إن أتذكر- استحضر شارع “نيفسكي” في محاولة لقراءة الشخصيات العابرة انطلاقا من أحذيتها، واستخلص طبيعة التنوع الذي يسم العابرين كأفراد. فمن جهة، هنالك المدينة، ثم الفرد والعبور. هذا التنوع لا يتوافر بالدقة ذاتها إلا في فضاء المدينة الذي يفسح في حالة كهذه إنتاج المعنى. والروائي “عبد لله العروي” تساءل في حوار “من التاريخ إلى الحب” (أجراه الناقد محمد الداهي) عن الفضاء في الرواية، وما إن كانت الدارالبيضاء تتيح إمكانات القول الروائي قياسا ب”بطرسبورغ”: “لذلك قلت في “اليتيم” لِم مدينة الدارالبيضاء لم تكن مسرحا لرواية؟ لأنها لا توجد فيها شوارع كبرى تكون ملتقى مشاريع الشخصيات.” (ص/52) “أين هو الميدان أو الساحة الكبيرة على نحو ما يوجد في بطرسبورغ، حيث يستلهم دستيوفسكي كثيرا من الأحداث والوقائع.” (ص/52) من ثم، فإن أول معلم حداثي الفضاء في شساعته وتنوعه الذي ينتج الإحساس بالحياة ودفء العلاقات الاجتماعية والإنسانية. على أنه وإلى الفضاء تستدعى الشخصيات ذات الكفاءة والاقتدار. وأرى بأن “إدريس” في تماهياته وامتداداته جسد الفاعل الرئيس، إلى كل من “شعيب”، “الشيخ العوني”، “علي نور” و”سرحان”. في المقابل تراوح الزمن بين الماضي، الحاضر والمستقبل، حيث تبرز أسئلة الذاكرة، قلقها وإخفاقاتها. إلا أن ما يجسد الصوغ في جماليته: اللغة. وهنا يطرح الروائي “العروي” إشكاليتها المنعكسة في عدم القدرة على الإحاطة، خاصة فيما يتعلق بالمادي الحضاري وليس الوجداني. يرد في الحوار المشار إليه سابقا: “فلا يمكن أن تبدأ رواية تستحق الاعتبار بلغة الجاحظ”. (ص/48) إلا أن ما يلاحظ- وفي هذا السياق- كون الرواية السادسة والأخيرة “الآفة” (وبالمناسبة فهي الأقل مقروئية وتلقيا برغم أهميتها)، احتفت بالمعجم العلمي الملائم لنزوع كتابة رواية في الخيال العلمي موضوعها الذاكرة. إن الروائي “عبد لله العروي”- في ضوء السابق- كسر تقليدية الكتابة الروائية العربية، وبالتالي راهن على التشظي الشكلي المساير لطبيعة المجتمع العربي الذي يفتقر إلى الوحدة والانسجام مادام يطابقه كشكل إبداعي “فن الأقصوصة”. والأصل أن اختيار الخلخلة والتشظي، وسم التجربة الروائية بالغموض في مجتمع دأب قراءة “نجيب محفوظ” في واقعيته، و”إحسان عبدالقدوس” في عاطفياته”. وكنت عبرت عن هذا في كتابي: “عبدالله العروي وحداثة الرواية”، إذ قلت بالحرف: “الغموض في الرواية إذن، يكتسب مشروعيته من كون الرواية تؤسس سؤال اختلافها، أو غموضها من طريقة ونمط كتابتها. إنها تنبني على المغاير، دون النحو منحى الكتابات الروائية التقليدية. يقول “العروي”: “الشيء الواضح تماما هو الشيء الجامد”. “(ص/15) إن الخلخلة والتشظي طبعا تجربة الروائي “عبد لله العروي” بالتجريب، لو أنه التجريب الواعي والهادف، وليس المقصود في ذاته كما دلت أكثر من تجربة روائية مغربية. وأحب أن أختم هذا السؤال، برأي شخصي بخصوص فضاء “جامع الفنا” بمراكش، في ضوء كونه ساحة فسيحة اختار الروائي “العروي” الكتابة عنها، في حين نجد بأن هذه المدينة وبهذه الساحة وروح الفكاهة التي تتفرد بها (يرى “كونديرا” بأن الفكاهة مصدر الإبداع الروائي) التي تتفرد بها، لم تستطع خلق قامة روائية مغربية يشهد بكفاءتها وجدارتها المستحقة. لقد خلقت شعراء ولم تخلق روائيين.