من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. ف«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة. هل كانت طنجة مدينة لا تعاني اقتصاديا كباقي مدن الشمال، أليس كذلك؟ كانت مدينة ذات اقتصاد دولي كمدينتي سبتة ومليلة قبل 1958، لكنها أمست، منذ إلحاقها بالنظام السياسي المركزي المغربي، تعاني مكانتها الاقتصادية من الاحتضار. فقد قتل نشاط مينائها الاقتصادي بعد نقل أنشطته شبه الكاملة إلى الدارالبيضاء. ربما كان ذلك يندرج ضمن خطة التهميش التي سلطت على كل الشمال. وكان اسم وزير الاقتصاد، في أواخر الخمسينات، السيد عبد الرحيم بوعبيد، من الأسماء المتداولة بقوة كمسؤول عن قرار “إعدام اقتصاد طنجة”. لكن ذلك لم يمنع غالبية الطنجاويين من منح أصواتهم في أول انتخابات برلمانية سنة 1963 في المغرب لحزب بوعبيد، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكان كثير من سكان المدينة مقتنعين بأن ما ساعد على بقاء مدينتهم محتفظة ببعض حيويتها الاقتصادية الفاعلة، هو اللاجئون السوريون الذين اختاروا الاستقرار فيها والاستثمار فيها. ولا يزال حيهم بمسجده المتميز بعمارته الشامية شاهدا على الوجود السوري الفاعل في هذه المدينة التي كادت أن تكون منكوبة ككل الشمال في عهد الدولة الوطنية. ولم يأت الفرج إلا مع زمن الملك محمد السادس بإنجاز مشاريع اقتصادية محقِّقة للشغل ومنتجة للثروة؛ وامتد بعض هذا الفرج ليشمل نسبيا إقليمتطوان القديم؛ في انتظار أن يفي المسؤولون بوعودهم لباقي أقاليم الشمال. هاجرت إلى طنجة من أجل الدراسة أساسا، كيف كان حال التعليم هناك وقتها؟ انبهرت بكثرة وجود مؤسسات التعليم في مدينة. ولم يكن هناك ما يسمح بالمقارنة مع الحسيمة مثلا، أو مدن الشمال الأخرى. فقد كان في المدينة البعثة المدرسية الفرنسية التي تولى إدارتها الأولى في 1902 الجزائري الفرنسي، قدور بن غبريط. وعرفت المدينة المدرسة الأمريكية الشهيرة، كما عرفت التعليم الإسباني الابتدائي والثانوي، والمدارس التابعة للمغاربة اليهود، وفي الجانب المغربي الإسلامي كانت هناك مدارس ابتدائية وإعدادية تابعة لوزارة التربية، ومدارس حرة كمدرسة آل كَنّون، ومدرسة المكي الناصري، إضافة إلى مدارس ابتدائية حرة كثيرة. وفي قمة هذا النشاط التعليمي المغربي نجد “ليسي ابن الخطيب” باللغة الفرنسية، والمعهد الديني باللغة العربية، وثانوية محمد الخامس. وكان تلامذة الثانوية الفرنسية Lycée Regnault هم من يحمل لواء النضال اليساري النشط (الماركسي بالذات) أكثر من غيرهم. وكانت ودادية التلاميذ التابعة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنفذ لتوجه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الأكثر فعالية في تجنيد التلاميذ إيديولوجيا. وماذا عن الجانب الثقافي العام؟ كانت طنجة تتمتع كذلك بمؤسسات ثقافية متنوعة ومتعددة، مثل مسرح سيربانتيس théâtre Cervantes، ومجموعة من قاعات السينما الرائدة والشعبية، والمراكز الثقافية المنتشرة في أرجاء المدينة، كالمركز الثقافي الفرنسي، والمجلس البريطاني، والمركز الثقافي الأمريكي، ودار الشباب المغربية. وكنا نحن التلاميذ نرتاد مكتبات هذه المراكز للمطالعة ومراجعة الدروس، والاستفادة من العروض المسرحية والسينمائية المقدمة فيها. وكنا نسمع في شوارع المدينة كل لغات العالم الحية وأنغامه. فقد عرفت المدينة “والتر هاريس” الإنجليزي، صاحب كتاب “المغرب المنقرض”، وكانت أصداء جان جينيه، وبوول بولز، وتينيسي ويليامز تصلنا من حين لآخر، كما كانت أخبار مخرجين سينمائيين تملأ أسماعنا ك”Philippe de Broca”، و”Nicolas Klotz”، “وGeorges Waggner”، و”Philippe Dunne”، وغيرهم ممن عشق طنجة، وأخرج أفلامه فيها. إضافة إلى أن طنجة كانت مدينة للمكي الناصري، وعبد لله كنون، وآل ابن صديق، ومحمد شكري… ما ذكرته يجعل طنجة من بين أهم المدن المغربية المنفتحة على العالم وعلى فكر التحرر مع الاحتفاظ بقيمها المغربية، فلماذا لا توجد فيها جامعة إلى الآن؟ نعم، هذه هي طنجة التي لا توجد فيها جامعة علمية محسوبة عليها إلى الآن (سنة 2019). كل ما يوجد بها مجرد كليات تابعة لجامعة تطوان الخجولة، ولا يزال مستشفاها الجامعي ينتظر، منذ سنوات، الانطلاقة العملية لكلية الطب، التابعة هي بدورها لجامعة تطوان. ولا أدري ما علاقة غياب جامعة بهذه المدينة بقول وزير الثقافة الأسبق السيد محمد بنعيسي في 1990 معلقا على المدينة التي شهدت تعليمي الثانوي: “إن مدينة طنجة ليست مدينة علم”!؟، ولست أدري هل أكون مصيبا إذا قلت: إن الريف، وفقا لتعريف عبد الحق البادسي في القرن الرابع عشر الميلادي، لا يزال مهملا ومهمشا في القرن الواحد والعشرين؟ ورغم هذا كله أستطيع أن أجمل القول: إن طنجة معلمة حضارية تعكس ثقافة المدينة الشاملة للسلوك البشري ولتعدد مواقفه، وللأخلاق التي سرد محمد شكري بعض بواطنها ومظاهرها في رواياته.