قال المفكر عبد ا العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. يميل العروي في كتبه، خاصة في “ثقافتنا على ضوء التاريخ” والفصل الأخير من كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، إلى استشكال موقع المثقف، وتأزيم موقفه، بل ذهب خلال لقاء نظم مؤخرا بالمكتبة الوطنية بالرباط إلى حد اعتباره غير مؤهل للإجابة عن الأسئلة التي تطرح في الغرب اليوم حول الثقافة الإسلامية. في نظرك، هل ينطلق هذا الموقف من منظور إبستيمولوجي صرف؟ ألا ترى أنه يقصي مشاريع فكرية كبرى لكل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط وجورج طرابيشي وآخرين؟ فعلا، ينفرد العروي بتصوّر مميّز ونقدي للمثقف، ويبلوره ضمن مستويات ضمنها مستوى أو موضوع أزمة المثقفين الذي أشرتم إليه. وفي تصوّره المثقف العربي يعيش أكثر من أزمة واحدة. غير أنه ينبغي التأكيد، هنا، على أن تصوّره للأزمة ينأى عن الدرامية أو التأزيم. وحتى في أعماله الروائية صوّر العروي تعاسة المثقف، غير أنه لم يدفع به نحو أدغال اليأس. يقول: “إدريس تبخّر في الهواء ولم ينتحر. هذه هي قناعتي، الثقافة تؤلم وتؤذي، ولكنها تُشفي أيضا، بل هي الطريق الوحيد للشفاء”. فالأزمة حافز على التفكير والنقد والمراجعة والاختبار أيضا. وفيما يخص الشق الثاني من السؤال، أوافقك الرأي. هناك في العالم العربي، مراجعات وأعمال تحليلية للثقافة الكلاسيكية الإسلامية والعقل العربي ومشكلات الثقافة في هذا العالم، وكيفما كان، لا فكاك من الغرب ومن دراسته وترجمته… والمشكل في التحرّر من الانصياع لأسئلة الغرب المدروسة ومن المعجم الأمريكي الذي يصمم على تمزيق الخرائط وتكريس خطابات أحادية. ومن ناحية الإحالة، فعلا هي تفرض ذاتها بشكل محيّر في أحيان. فالعروي لا يحيل على الجابري والجابري من بعد لم يعد يحيل على العروي، وإذا كانت هناك من إحالات، فإنها لا تفارق “لغة الرمز والغمز” و”الرمضانيات والحداثة”. في الثمانينيات من القرن المنقضي، أشار العلامة عبدا كنون إلى أن المفكرين المغاربة لا يحيلون على بعضهم البعض. وهو ما امتد إلى الفضاء المغربي ككل. وقد اشتكى من الظاهرة عينها الراحل محمد أركون بدوره في كتابه “قضايا في نقد العقل الديني”. أخيرا، إلى أي حد يمكن القول إن العروي نجح في تحقيق ذلك الغرض الموضوعي الذي ترنو إليه النظريات ما بعد الكولونيالية؛ أي تفكيك مختلف التشابكات الكامنة في عوالم العلاقة القائمة بين السلطة والثقافة؟ يظهر أنه من الصعب أن ننوب عن عبدا العروي في الإجابة عن سؤال يخصّ بشكل وطيد جانبا من مشروعه. ولا أعتقد أن المفكر النقدي بإمكانه أن يقول ها قد نجحت في هذا الموضوع أو ذاك أو قد فشلت فيه. هناك النقد الذاتي، لكن من خارج هذا التقاطب أو التضاد. وقبل ذلك فعبدا العروي أوّل من يعي بالنقد الذي بإمكاننا توجيهه له، بل أحيانا يستبق إليه. وهي فكرة أشار إليها من قبل المؤرّخ التونسي هشام جعيط في سياق مراجعة كتاب عبدا العروي حول: “أزمة المثقفين العرب”. وعلى طريق “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي”، وقياس مدى نجاحه فيها، فإنه لا يتوجّب أن نفسر أفكار العروي حتى ندخلها ضمن نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، أو نقول بمركزيتها ضمن أفكاره وتصوّراته. فهي لا تشغل إلا حيّزا ضمن منجزه الكبير. إلا أن اللافت أنه مفيد هنا، وليس غريبا أن يتم عدّه بين الممهدين للدراسات الثقافية كما نقرأ في وضوح في كتاب بعنوان: ب”الدراسات الثقافية” لكل من زيودين ساردار وبورين فان لون. وهو مفيد من ناحية الالتفات إلى تعقيد الغرب وكيف أن الكثير من المثقفين العرب هم ضحية لهذا التعقيد الذي لا يعونه. وكذلك تصوّر للاستعمار من حيث هو “عملية طويلة”، طالما أنه لا يبدأ بمجرد حدث أو سنة. وهو مفيد من ناحية التحرّر من العداء للغرب أو من تلك النظرة الأحادية التي بموجبها يغدو كل شيء دخل بلادنا في حقائب الاستعمار. وهو مفيد ليس من ناحية نظرية ما بعد الاستعمار، مفيد من ناحية التعاطي مع واقعنا من منظور التحليل المتبصّر. صحيح أنه لم ترفع صورته في الحراك، وقبل ذلك هو أضرب عن الكلام حول الحراك وضمنه حراك المغرب، غير أن بعض أعماله فرضت نفسها من أوّل وهلة. وهنا نصل لمفهوم الدولة تمييزا لها عن السلطة كآلية للحكم. الدولة التي لا يمكن حصرها في إدارة أو جهاز فقط، الدولة من حيث هي ثقافة أيضا. والدولة من حيث هي تحمي من الانفجار. والمؤكد أن هناك مفاهيم أخرى وتصوّرات أخرى. فأعمال العروي تفيد في مجموعها. وحتى أختم بدوري، فالحوار جزء على هامش هذا المجموع.