من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجةوالجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. ف«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة. أشرت سابقا إلى توافد الطلبة المغاربة على الجزائر، فهل كان التعليم متقدما هناك؟ لا شك أن جامعة الجزائر أقدم جامعة بمفهومها العصري في شمال إفريقيا. فمنذ 1833م ظهرت أول نواة جامعية في الجزائر العاصمة. ومن الجدير ذكره أنها كانت من أوائل من استقبل الطلبة المغاربة؛ فالمهدي بن بركة وعبد الكريم الخطيب درسا في جامعة الجزائر. فقد كان فيها جميع التخصصات من الطب والعلوم الإنسانية ولاقتصادية والقانونية. كما كانت تضم عددا من المستشرقين والأنتروبولوجيين الفرنسيين بخاصة. وعقب الاستقلال مباشرة تأسست جامعة وهران وجامعة قسنطينة. أما التعليم الثانوي فقد كانت الجزائر مرجعا لتأسيس المدارس الفرنكوإسلامية في المغرب المحتل، مثل كوليج مولاي يوسف في الرباط، وكوليج مولاي إدريس بفاس، على طريقة «المدرسة الكتانية» في قسنطينة و»مدرسة الثعالبية» في العاصمة الجزائر. وفي الجملة لم يكن ممكنا مقارنة مكانة الجزائر التعليمية مع المغرب. ولذلك كان توجه الطلبة المغاربة إلى الجزائر بمثابة الفتح المبين. وماذا عن الحياة السياسية؟ كان التوجه السياسي الرسمي للجزائر يتوافق كثيرا مع توجهات الأنظمة «الثورية» الاشتراكية والقومية العربية، وهي التوجهات نفسها التي كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يتبناها، فحزب الاتحاد عندنا كان كحزب جبهة التحرير الوطني عندهم، ضد التعددية الحزبية أو السياسية. وكان أحمد بن بلة يسير على خطى جمال عبد الناصر وفيديل كاسترو. فقد أعلن إلغاء كل الأحزاب والجمعيات مهما تكن، ودعا الجميع إلى الانضواء تحت لواء حزب جبهة التحرير الوطني (FLN)، وعلى جميع الهيئات الأخرى أن تكون تحت أجنحة الحزب القائد الأوحد، ومنحت لها صفة «المنظمات الجماهيرية». أما بالنسبة لتأثر النظام بالشعارات الاشتراكية؛ فقد أصبحت صفة الدولة الجزائرية هي «الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية»، وصفة البرلمان «المجلس الشعبي الوطني»، وصفة مؤسسة الجيش «الجيش الوطني الشعبي»، وصفة الجماعة المحلية «المجلس الشعبي البلدي»، وحملت كل هذه الهيئات شعار «من الشعب وإلى الشعب»؛ كما أطلق اسم «قصر الشعب» على القصر الجمهوري، و»دار الشعب» على المقر المركزي للنقابة الوحيدة «الاتحاد العام للعمال الجزائريين». ولا تزال هذه الصفات والشعارات قائمة إلى اليوم. كانت الشعارات الاشتراكية، كالتسيير الذاتي للمزارع التي غادرها المعمرون، والأرض لمن يخدمها، والمصانع لمن يعمل فيها، وغيرها من الشعارات التي كان ينحتها أو يستنسخها منظرون اشتراكيون مستقدمون من مختلف الدول الأوروبية. وماذا عن واقع النخبة الحاكمة؟ من الجدير ذكره أن المظاهر الاشتراكية كانت تطال حياة الرئيس بن بلة، فهو كان يحيى حياة مقتبسة من حياة «هوشي مِنْهْ» الفيتنامي، ويقيم في سكن متواضع يعرف باسم «فيللا جولي» يقع جنب قصر الشعب. غير أن ما كان ملفتا للنظر أكثر هو أن الرئيس بن بلة كان يلبس لباسا روسيا عند زيارته للاتحاد السوفياتي (روسيا)، ويلبس لباسا صينيا عند زيارته للصين، ويلبس لباس شبيها بلباس كاسترو عند زيارته لهافانا، ولا يتوانى عن ترديد «نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب». كلما عاد من زيارة القاهرة. علما أن بن بلة لم يستمر كثيرا على رأس الجزائر؟ لقد أدت السياسة التي اتبعها إلى حدوث أول تمرد مسلح في الدولة الجزائرية المستقلة في شرق العاصمة من طرف ساكنة منطقة القبائل الأمازيغ، ومن المعارضين بقيادة حسين آيت أحمد، ومن المعارضين للأحادية الحزبية. وآيت أحمد هو مؤسس أول حزب معارض في الجزائر المستقلة، وهو حزب «جبهة القوى الاشتراكية» ضدا على قرار منع التعددية الحزبية، قبل أن يسلك رفيقاه في قيادة حرب التحرير الجزائرية: محمد خيْضر ومحمد بوضياف سلوكا مماثلا؛ فغادروا الجزائر التي ناضلوا وكافحوا من أجل استقلالها ليعيشوا في المنفى. وقد اُغتيل خيضر بإسبانيا سنة 1967 في عهد بومدين. نسمع باستمرار كلمة «مروكي»، بدلا عن «مغربي» في حديث الجزائريين، فما حقيقة الأمر؟ الشيء الذي فاجأنا نحن المغاربة في الجزائر أن الجزائريين يتحدثون معنا، أو علينا، ليس بصفتنا مغاربة، وإنما نحن مروكيين أو امراركة. ولا أدري إن كانوا يعلمون أن كلمة مروكي صفة قدحية للمغاربة وحاطة من وطنيتهم، أم أنهم كانوا يقصدون إلى ذلك قصدا. ولا يزال هذا دأبهم إلى اليوم (2019). وكلمة مغربي في الجزائر لا تستعمل إلا في الخطابات الرسمية أو شبه الرسمية. أما دون ذلك فالمغرب هو «المرّوك» والمغربي هو «المرّوكي». والأمر نفسه نجده عند التونسيين.