مرت سنتان على انطلاق حملة الاعتقالات التي استهدفت مناضلي الحراكات الاجتماعية، في الحسيمة أولا، وبعد ذلك في باقي نقط الاحتجاج الأخرى، حملة أعلنت اكتمال قوس التراجعات الحقوقية، ونهاية المراهنة على إصلاح النسق المؤسساتي المعطوب من الداخل، فقد ظهرت الأغلبية الحكومية مكتوفة الأيدي أمام تمدد التدبير الأمنوي، وانقلبت الآية مع البلاغ المفروض المشؤوم لتلك الأغلبية، بلاغ سلبها حتى هامش السلطة التنفيذية المتبقي لها بعد الاستحواذ على ما يتيحه لها الدستور على علاته من ممكنات الفعل المحتشم، لقد بدت الأغلبية وحكومتها عاريتين، لا تجرأن على معارضة سلطة الأمنيين المتصاعدة. واليوم، حين تسمع إلى تصريحات بعض قادتها التي تحاول التنصل من تبعات ذلك البلاغ، تتساءل: هل طلب منهم محو آثاره، كما طلب منهم التوقيع عليه؟ أم هي صحوة ضمير متأخرة بعد الابتعاد زمنيا عن الماء الحارق؟ أم إعلان بطريقة ضمنية أن الموقعين عليه تعرضوا لعملية تضليل، وقدمت لهم معطيات خاطئة بهدف إيجاد غطاء سياسي لتدخلات غير مشروعة ستأتي لاحقا؟ طبعا، هذه التساؤلات لن تجد لها أجوبة في واقع الجبن السياسي، الذي لا يخدم الدولة ولا الأحزاب ولا متانة المؤسسات، فالدولة محتاجة إلى من يقول لها الحقيقة، ولمن يملك نباهة الاعتراض، لا من يمتلك «استحمار» ترديد «نعم» البليدة والمهادنة. في تلك الأجواء ومناخات الخوف، بدا وكأن النخبة السياسية والحقوقية المؤسساتية مشلولة، خائفة من المبادرة، متوجسة من قول مغاير لسردية الأمنيين.. فشلت وساطة صديق للملك حتى قبل أن تنطلق، لأنه لم يكن يمتلك ضوء أخضر من السادة الجدد، والتقط المجلس الوطني لحقوق الإنسان مع الثنائي اليزمي/ الصبار الإشارات المقبلة من «الفوق»، فلم يحاول معاكسة التيار، وأوقف وساطته غير المرغوب فيها، واكتفى بأدوار أقرب إلى التدخلات «الإنسانية» منها إلى أدواره الحقوقية، وبعد حادث تسريب تقريره حول تعرض بعض المعتقلين للتعذيب، بدأ القائمون عليه يعدون أيامهم الأخيرة في المجلس، مستسلمين لقدرية القبول بالأمر الواقع. هذا الاستسلام أمام الاندفاع الأمنوي نحو إنهاء الاحتقانات بالقمع والاعتقالات حفاظا على هيبة الدولة المفترى عليها طال حتى الرموز والنخب التي يسمح لها تاريخها ووضعها الاعتباري بلعب أدوار النصح والمشورة، مثل قيادات ما كان يسمى الحركة الوطنية، لكن للأسف، بدا وكأن هناك من أشار إلى أمثال اليوسفي وأيت يدر وإسماعيل العلوي بلا جدوى التدخل، فردوا الذين طلبوا وساطتهم خائبين. واليوم، يحق لنا أن نتساءل عن تكلفة اللجوء إلى الحلول الأمنية، سواء التكلفة المالية التي يسكت عنها الجميع، والتي لن تكون موضع بحث ومساءلة، أو التكلفة السياسية التي عمقت أزمة آليات الوساطة الحزبية والنقابية والحقوقية، أو التكلفة الاستراتيجية، فقد تضررت صورة البلد الحقوقية، وواهم من يراهن على تراجع الضغوط الخارجية في المسألة الحقوقية، لأنه يبين عن قصر نظره وعن افتقاده للرؤية بعيدة المدى، لكن التهديد الاستراتيجي الأكبر قد ارتبط بتهديد الوحدة الوطنية، فقد كان بعض «الهواة» لا يدركون وهم يسعون إلى شيطنة منطقة الريف عبر إعلام «متهور» يقوده «صغار» من المؤلفة جيوبهم، أنهم بصدد فتح جروح تاريخية يغذيها شعور بالغبن تجاه المركز، ومن شأن تغذيتها أن تجعلنا أمام واقع قريب من تداعيات الأخطاء التاريخية التي ارتكبت في الصحراء، والتي ندفع ثمنها اليوم، على حساب تنمية البلد واستقراره. في الأسابيع الأخيرة يلاحظ، تنامي مبادرات للوساطة، وتغيرا في خطاب المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، تغير ليس راديكاليا، ولكنه انزياح ولو محتشم عما سبق من شيطنة وتهديد وافتراءات، وحتى الصحافة المحسوبة على النسق السلطوي كفت ألسنتها الحداد عن الخوض في هذا الموضوع، هذه الأمور وغيرها جعلت كثيرين يتفاءلون بإمكانية طي لهذا الملف الذي تضرر منه الجميع.. ومع هذا التفاؤل المتوجس ينمو خوف من مزاجية الدولة السلطوية التي تغير نتائج المباراة في الأشواط الإضافية. بعد شهرين سيكمل الملك محمد السادس عشرين سنة من الحكم، وكما انطلق عهده بمحاولات لطي صفحة الماضي، أحدثت اختراقات في جسم السلطوية، وإن لم تكتمل، فإن الفرصة لازالت سانحة لتصحيح هذا الانحراف عن سكة الإنصاف والمصالحة. فكل نظام سياسي يحتاج في مناسبات مثل هذه إلى تجديد مشروعيته، وبناء شرعيات جديدة، كما أن الدولة في حاجة إلى عرض سياسي جديد، وليس فقط إلى عرض تنموي مفصول عن المداخل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، إذ الإنسان هو المصدر الأساس للثروة اللامادية.