قال المفكر عبد ا العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. في نظرك، هل يمكن لقارئ كتاب: “من التاريخ إلى الحب”، الذي هو عبارة عن محاورة مع العروي حول تجربته الروائية واستجلاء سماتها وتحولاتها وتطلعاتها، أن يطرح سؤال شروط الإبداع الروائي، وأن يجلو العوائق التي تحول دون تشخيص العقد الموروثة أو ما تسميه ب”طرق الموضوع الضائع”؟ *** سبق أن أثرت من قبل مفهوم العقدة عند عبد لله العروي، ويمكن للقارئ أن يتوسع في الموضوع بالرجوع إلى الحوار الذي أجريته معه (عبد لله العروي: من التاريخ إلى الحب). من بين القضايا التي أثارها العروي في رواياته نذكر التمييز بين الموصوف والموضوع. الموصوف هو ما يلتقطه السارد من أوصاف وأحداث بتفاعله يوميا مع العالم الخارجي (التجربة المعيشة)، في حين أن الموضوع لا يكتفي بسطح الأمور وقشورها وإنما يبحث عما يوجد خلفها، “عن عبارة تخص الوجدان، تخص لون الموصوف، الوجدان حركة واللون حركة والنغمة حركة، لنوحد تلك الحركات الثلاث، ذلك هو الهدف” أوراق ص. 235. وبما أن إدريس عجز عن اقتناص النغمة المواكبة أو النغمة الصغيرة بلغة لويس – فرديناند سيلين (النغمة الداخلية أو نغمة الروح أو نغمة الحياة)، فقد أنعش الإخفاقات السابقة، وحكم على نفسه باليأس القاتل. “لم يكن في مستوى طموحه، كما لم يكن مجتمعه في مستوى آماله. مات كما مات غيره من العجز والحسرة” ص. 236. يرى شعيب أن هناك دوافع خارجية أدت إلى إخفاقه، وأن الكاتب شدد الخناق عليه، وجعل من حياته موصوفا مجربا عليه تقنيات الترتيب والتلوين والهيكلة. مما أُثير في نقاش دار بين مثقفين في مقهى المنزه بطنجة (خميطة صاحبة المطعم، علي نور صديقها، وضيوف أجانب ريكاردو ووليم وخوان) قضية الموضوع. قال ريكاردو موجها السؤال إلى علي نور “قل لي يا صديقي المهذب ما هو موضوعك؟ في أي شيء تكتب؟ منذ عشرين سنة وأنا أحاول أن أكتب حول لاشيء ولا أجد إلى ذلك سبيلا. الحق أن السبل كثيرة ملتوية متقاطعة، وهذا هو المشكل”. الفريق ص. 268. لم يستوعب علي نور فحوى هذا الخطاب إلا عندما كان يتابع أطوار المقابلة الحاسمة التي يجريها الفريق الصدِّيقي مع فريق آخر بالملعب الشرفي (ملعب محمد الخامس حاليا). تناهي إلى سمعه ما يتناقله الجمهور (النار في الحطب). حاول أن ينبه خميطة ويذكرها بكلام ريكاردو عن الموضوع الغائب المعجز. “الموضوع هو ما أسمع الآن، ما يقال وراء ظهري، ما يطرق سمعي رغما عني. الموضوع هو تجاوب الصوتين معا. الموضوع حاضر مع الحاضرين هنا ونحن نجري وراءه منذ عقود في ربوع خالية حيث لا حركة ولا حياة.. الموضوع في التقاليع؟ ولله مهزلة وأية مهزلة!” الفريق ص. 331. شعر علي نور- لحظتئذ- أن الموضوع قد فاته وأضحى في خبر كان. كان يبحث عنه- أسوة بغيره- في ربوع خالية ونائية منذ عقود خلت، ولم يكن يتوقع أنه موجود على مقربة منه، فوقع له مثل الراعي الأندلسي سانتياغو- في رواية “الخيميائي” لباولو كويلو المستلهمة من محكي “الحالمين” في “ألف ليلة وليلة”- الذي ذهب للبحث عن الكنز في أهرامات مصر، في حين هو مدفون في عتبة داره. تتميز الرواية عن بقية الأجناس في طريقة سرد الأحداث وفي الغاية من تمثيلها. ينهض الشعر مثلا على تكسير اللغة وبناء تعابير جديدة على أنقاضها. إن مجال الرواية هو ميدان السلوك ليس السلوك الواعي أو الظاهر وإنما ما وراء السلوك. أي ذلك الشيء الموروث والمستقر في وجدان الشعوب وذاكرتها وتاريخها. وهو ما يصطلح عليه عبد لله العروي بالعقدة. ليست بالمعنى النفساني الفرويدي، وإنما “هي ما يتركه فيك التاريخ. إنك تولد ببرنامج موروث في ذهنك، وفي جسمك، وفي فؤادك. ثم بعد ذلك تتعلم اللغة والمسائل التربوية. تنقش في قلبك أشياء وترى نفسك تقوم بأشياء. وكل سلوك معين مخالف لسلوك الآخرين في أوقات معينة، وتقول: من أين لي هذا؟ الروائي هو من يحاول أن يجد المجاز الكافي والغني” (عبد لله العروي من التاريخ إلى الحب ص. 60). لكل شعب عقدته التاريخية وعلى الروائيين أن يجسدوها بطريقة مجازية وفنية في أعمالهم. خيبة أمل عبد لله العروي مع نجيب محفوظ تكمن في كون رواياته لا تكشف عن العقدة المصرية مكتفية بالموصوف، فحسب. ولا يجدها في أفلام يوسف شاهين لأنها خارج اللعبة. في حين عاين بعضا من معالمها في فيلم ” المومياء” لعبدالسلام شادي. ومن ثمة يحصل التباين بين الروائي الذي يكتفي بوصف الأشياء كما تتراءى له ويتفاعل معها بحواسه وأحاسيسه، وبين الروائي الذي يتناول الموضوع بامتداداته التاريخية وأبعاده النفسية، وبقدرته على رؤية ما تخفيه الموصوفات ما تضمره، وعلى تمثيل العقدة التاريخية للشعب بحثا عن أنماط جديدة للعيش. لم يكن جورج لوكاش في كتابه القيم: “نظرية الرواية” أن ينظر إلى الرواية ويبين اتجاهاتها، وإنما سعى- في المقام- إلى بيان ما إذا كانت الرواية ترهص بمجتمع جديد يخلصنا مع “عصر الإثم الكامل”. من بين الروايات التي أعجبت بها رواية “صحراء” لجون- ماري لوكليزيو. استثمر فيها الموصوفات (دور سلالة ماء العينين في الدفاع عن حوزة الوطن، تمثيل الحضرة الصوفية وطقوسها، عودة للأجواء من مرسيليا إلى الصحراء بعدما اكتشفت زيف الغرب ونفاقه، تجسيد رمزية الصحراء بحمولتها التاريخية والوطنية والاستهوائية والجغرافية وتشبيهها بالبحر في سعته ورحابته وهيبته ومتاهته). وعلاوة على معالجة الروائي موضوع رمزية الصحراء، يرد بالكتابة على الكتابة الكولونيالية التي نسجت صورة إثنوغرافية عن المغرب. وما يؤسف له أن هذه النظرة المسكوكة مافتئت تُستثمر في السرد الغربي لبواعث الغرابة من جهة، ولأسباب إيديولوجية وثقافية (تكريس الهيمنة الثقافة الغربية أو المركزية الغربية) من جهة ثانية. إن الرد بالكتابة (ما توسع فيه بيل أشكروفت وفريقه) ليس المقصود به – كما توهم بعض النقاد العرب- الرد باللغة الأصلية (هذا يندرج في إطار السرديات الوطنية)، وإنما الرد بلغة المهيمن لإنتاج لغة ورؤية جديدتين. وهذا ما نعاينه – على سبيل المثال- في كتابات إدوارد سعيد ووول سوينكا وسلمان رشدي وهومي بابا ونجوجي واثيونغو وغيرهم. ما يسترعي الانتباه أن الكتاب المغاربيين ذوي التعبير باللغة الفرنسة لم يردوا بالكتابة على الأساطير التي صنعها عنا الغرب، ولم يساهموا في تبديد أضاليلها. لأنهم يُحابون المؤسسة الأدبية الفرنسية التي لا تضفي الشرعية على كتاب المستعمرات السابقة أو على كتاب ما وراء البحار إلا إذا امتثلوا لقوانينها وتوجهاتها العامة، ومن ضمنها مراعاة “الاستعمال الجيد” و”انتهاك مناطق الحساسية في بلدانهم الأصلية”، و”إثارة المواضيع الغرائبيةexotiques “. في حين لا نجد في المؤسسة الأدبية الأمريكية مثل هذه الصرامة، وهو ما يحفز المهاجرين والمنفيين على ابتداع لغة جديدة (مخالفة للغة المعيارية) للتعبير عن مواقفهم ومشاعرهم، وإعادة تشييد هوياتهم السردية على الحدود (في المناطق البيْنيَّة).