لكل مكان سحره الخاص. وحيث كنا، في ذلك النزل البعيد وسط قرية معزولة بمدينة كالينينغراد، شعرنا بشيء من الراحة المفتقدة فترة طويلة من الزمن. وكان طبيعيا أن نشعر بالحزن ونحن نفارق أرضا وفرت لنا بعض الراحة. مع أننا في واقع الأمر كنا فرحين بالمغادرة، متشوقين إلى موسكو، بصخبها، وما تمنحه للإعلامي، في حالات كهذه، من فرص للكتابة، والتصوير، والتنويع. التقينا صاحبة النزل لنودعها، ونسلمها المفاتيح. فاقترحت علينا بعض الشاي. دعتنا إلى مطعم غير مستعمل. وهناك تذوقنا الحلويات التي كنت اشتريتها صباحا من الطرف الآخر للقرية، ونحن نتجاذب أطراف الحديث بشأن رحلتنا المتعبة، ومباراة الأمس، وما ينتظرنا في موسكو، وأشياء أخرى كثيرة، لعل أهمها طبيعة المكان، وجماله. يا له من مكان جميل. قلناها وكررناها. كان أشبه بكنيس، أو بغرفة ضيقة في قصر فسيح. البناء بالطوب الأحمر، الذي يعني أن هناك بردا قارسا يُتَّقى، ومطرا قويا يُحْذر. والنوافذ بالأقواس أعلاها، لكي تستجلب أكبر كمية من أشعة الشمس العزيزة جدا في تلك المدينة المعزولة بين دولتين أوربيتين (ليتوانيا وبيلاروسيا)، مع أنها روسية، بفعل تكاليف الحرب العالمية الثانية. قال الشباب: «يونس، إن صاحبة النزل تصلح لك زوجة». ضحكنا طويلا. وحين كنا نستعد للوداع، أعدت «الجاكيت» لصاحبها، وإذا ببنثابت يقول له: «معذرة، لقد فقدت مظلتك». توقعنا حينها أن يكون الرد كالتالي، مع ابتسامة عريضة، وتربيت على الكتف: «لا بأس عليك». غير أن الذي حدث هو العكس. انفعل الشاب، وقال بغضب ظاهر على وجهه وهو يمسد شعره بقوة: «إنها مظلة غالية». وراح ينتظر رد الفعل من قبلنا. كان بنثابت لبقا، كعادته، وقال: «اطمئن، أنا مستعد لدفع ثمنها، أيا كان». وتهللت أسارير الشاب، وأسارير أمه، وصاحبة النزل معا. ثم راح يحسب ما قدمه له بنثابت، ويضغط بيد على الروبلات، وبأخرى على «الجاكيت» الخضراء، فيما أمه وصاحبة النزل تحسبان معه، بعينين حادتين. حين كنا نغادر، طلبت منا صاحبة النزل صورة. التقطناها ونحن نسارع لكي نتفادى مطرا محدقا. ثم مضينا إلى محطة الحافلة بخطى متسارعة، ونحن نسخر من زميلنا بنثابت، ونستعيد المشهد العجيب. كان مشهدا نادرا في رحلتنا إلى روسيا. لكنه كان معبرا جدا. فبعض الناس في كالينينغراد يعطونك الانطباع بأنك فرصة، لا غير. وهي الفرصة التي يتعين ألا تضيع. تشعر بذلك في جحوظ العيون، وتلمظ اللسان بين الشفتين، والانكفاء على حساب الروبلات، والمجادلة في الثمن، والحرص على المزيد. وهذا حدث مرات هناك، بعكس ما كان عليه الوضع في موسكو وسان بيترسبورغ. ربما لأن الناس يعانون صعوبة العيش. من يدري؟ وصلنا إلى وسط المدينة، وقد قررنا، سلفا، أن نمضي بعض وقتنا في التبضع، ثم نتناول شيئا ما للغداء، ونمضي قدما نحو المطار. وهكذا توجهنا إلى السوق. وهو عبارة عن حوانيت صغيرة، أشبه بما يوجد في بلادنا تماما. تجد في المدخل من يبيعون أشياء بسيطة، مثل التذكارات. ثم تجد بعد ذلك صفوفا منظمة لبائعي الخضر والفواكه، وفي الجانب الآخر لبائعي السمك واللحوم، وفي غيرهما لبائعي الأثواب والثياب الجاهزة، وغير ذلك كثير. ما أثارنا كثيرا هو التذكارات المصنوعة من الكهرمان. فكالينينغراد هي عاصمة الكهرمان في العالم. ثم أثارتنا تلك الأسماك المجففة، ووفرة سمك السلمون الذي نادرا ما يطعمه مغربي. وهناك أشياء أخرى مثيرة أيضا، بأثمنة معقولة بالنسبة إلى أجانب مثلنا، غير أنها قد لا تكون كذلك بالنسبة إلى مقيم. ومع ذلك، فالسلع لم تكن بجودة عالية. فمثلا، عثرنا على مناديل صغيرة، لكننا فضلنا ألا نشتريها، رغم أن الزميل رزقو كان يرغب في اقتناء بعضها لأمه. كان الثمن مرتفعا، وقيمة المعروض هابطة. التقينا، بعد العودة إلى وسط المدينة، في مقهى يضم محلا لبيع الخبز والحلويات. طعمنا بعض الأشياء هناك. ورحنا نتبادل أطراف الحديث مجددا، في انتظار موعد الرحلة إلى موسكو. كان الطقس لايزال متقلبا. فبينما ترتاح في لباسك الخفيف لأشعة الشمس وهي تتساقط مثل الندى فوق الأزهار والأشجار والعشب الذي يبرز في كل مكان، إذا بك تفاجأ بمطر صاعق، يلطم وجهك، ويضطرك إلى أن تتلفع بالبلاستيك، لتحمي نفسك من البلل. في الطريق من المقهى إلى المحطة الطرقية نحو المطار، وكان هناك باعة للخبز، والتذكارات، والمأكولات، وكأننا في سوق ممتد على الرصيف، سألنا رجلا بقوام رشيق، في حدود الستين، و«كاسكيط» على رأسه، عن أيسر السبل إلى وجهتنا. وإذا بنا أمام نبيل من نبلاء العالم. قال إن أصله كوبي، ويعيش في روسيا. وابتسم ابتسامة لم تفارقه حتى بعدما فارقنا. ألح على أن يصحبنا حتى يطمئن إلى أننا بخير وفي الطريق الصحيح. ولم يغادرنا إلا وقد حصلنا على التذاكر، وركبنا في ميكروباص أبيض. تحدث مع السائق والمرافقة. وقال لنا وهو يودع مبتسما: «سفرا طيبا». ونحن في المطار، بعد رحلة قصيرة بين طرق جميلة، تتوسط غابات خضراء مسرفة في الجمال، رحنا نشتغل على مواد الأعداد الجديدة. كل منا في زاوية. ومن سوء حظي، حينها، أنني لم أجد لي مكانا سوى بجانب المرحاض. وكان له باب يصفق، فيحدث رجة مدوية. ولأن الناس لم يتوقفوا عن استعماله، فقد أصيبت طبلة أذني بلوثة. كما أصيب أنفي هو الآخر بلوثة. للأسف، لم يكن لي بد من الاستمرار في العمل هناك، ذلك أنني كنت أشتغل وأستعمل الكهرباء لشحن الأيباد. «ويني راك مفوج لي مع راسك». قلتها في نفسي، وضحكت، وواصلت أيضا. في لحظة تالية صعقنا بشاب مغربي يقول لنا بغضب: «مشات علي الطيارة». أسفنا لذلك جدا. غير أنه لم يكن لدينا ما نفعله إزاءه. وإذا بنا نكتشف أن طائرتنا هي الأخرى على وشك الرحيل. لقد تغير موعد الرحلة، وقيل ذلك مرارا باللغة الروسية، دون أن نفهمه. ولولا الصدفة التي قادت مغربيا يعيش بروسيا لكي ينبهنا، لكنا في ورطة. رحنا نجمع حاجياتنا بسرعة، وكل منا يوصي غيره بأن يتفقد أموره، لكيلا لا ننسى شيئا مهما. عرفنا، بعدها، أن الرحلة كانت بالفعل على وشك الانطلاق. بدا المسافرون غاضبين وهم يتفرسوننا بعيون جاحظة، تكاد تقفز من المحاجر. ولأن الطائرة صغيرة، فقد كنا نبحث عن أماكننا فلا نكاد نتبينها. أما وقد جلس كل منا في موضعه، وحلقت الطائرة في السماء، فلم ننعم سوى بكأس ماء. وكأنما كالينينغراد تؤكد لنا مرة أخرى أنها تأخذ أكثر مما تعطي. ما إن وصلنا إلى مطار موسكو، بعد حوالي الساعة ونصف، حتى رحنا نبحث عن محطة القطار إلى وسط المدينة. فوجئنا، حينها، بأن الرحلة الأخيرة على وشك الانطلاق. وكم كان منظرنا مثيرا للسخرية ونحن نركض جميعا وسط المطار، من مكان إلى مكان، ثم نبدل الاتجاه حين يشعرنا أحد ما بأننا نركض في الاتجاه الخاطئ. وفي الأخير، وقد وصلنا إلى تلك المحطة العجيبة، إذا بالنبل يتجسد مرة أخرى أمامنا. فقد قرر رجال ونساء الأمن أن يفتحوا لنا المعابر الإلكترونية. بل إن أحدهم، وهو كبيرهم على ما يبدو، راح يطمئننا إلى أن القطار لن ينطلق حتى نركب جميعا. لم يكن ذلك قطارا. كان فندقا من خمس نجوم. فالكراسي وتيرة أكثر من اللازم. وهناك مساحة واسعة لكي تمد رجليك، وتمنحهما الراحة. ولديك فرصة لكي تتابع شيئا ما مسليا على الشاشة التي أمامك. ثم هناك مرحاض بماء ساخن، ونظافة إكلينيكية ممتازة، حيث يمكنك أن تتوضأ. والنوافذ الكبيرة تغريك بمتابعة شريط الخضرة والجمال وهو يمر بتؤدة. كان مثيرا جدا أن ذلك القطار لا يتحرك بإيقاع سريع جدا، بعكس الميترو. لكنه متعة، بصدق.