في جعبة كل واحد منا تمثل، تقييم أو فكرة عن الرجل السياسي أو المرأة المسؤولة، قد لا تكون بالضرورة حقيقية..أو كما يقول كارل ماركس « جذر الرجل هو الرجل نفسه». «أخبار اليوم» تقتحم عوالم شخصيات سياسية، اعلامية، حزبية، حقوقية.. تقلدت سابقا أو لا زالت على رأس مسؤولياتها، من خلال سلسلة حوارات تقرب القارئ أكثر من شخصياتهم، طريقة تفكيرهم، ذكرياتهم، وممارساتهم خلال شهر رمضان. كيف كانت طفولة آمنة ماء العينين؟ وكيف كنت تمضين شهر رمضان خلال تلك المرحلة؟ طفولتي كانت جميلة مليئة بالذكريات رغم الصعوبات والمشاكل التي عرفتها، كنت ممتلئة حيوية وصخبا، وكنت أملأ كل مكان أوجد فيه، وكانت لي مكانة خاصة داخل الأسرة وفي الزاوية التي نشأت في أحضانها ووسط الجيران وفي المدرسة، حيث كنت بمواصفات تقييم المدرسة «تلميذة نجيبة ولامعة». كنت أعرف كيف أصنع الفرح حولي لأعيشه مهما كانت الظروف، لذلك، كان الجميع يدللني. ذكريات رمضان في القرية التي نشأت بها ذكريات جميلة تبدأ بمراقبة ظهور الهلال، والحرص على الاستيقاظ مع الكبار لوجبة السحور حتى وإن لم نكن نصوم، كما أنني لم أكن أصر على الصوم بخلاف باقي الأطفال، حيث كانوا يقولون لي: «انتي باقي ماحقش عليك الصيام»، وكان دائما يساعدني حجمي الذي ظل أصغر من أحجام رفاقي. ما هي العادة التي بقيت مترسخة في ذهنك إلى حدود الساعة؟ العادة الجميلة التي مازلت أذكرها هي قدوم الكثير من الناس محملين بأوانٍ فارغة لأخذ الحريرة قبل أذان المغرب. كنا نقيم بمنزل كبير في الزاوية، وكانوا يلقبوننا ب«الشرفا»، وكان بيتنا مفتوحا للضيوف، وقبل أذان المغرب كان طلبة المدرسة العتيقة المجاورة وعابرو السبيل يأتون لأخذ الحريرة وما تيسر، وكانت والدتي تصر على ألا ترد أحدا، وفي بعض الأحيان كان ذلك على حساب فطور الأسرة. كانت عادة رائعة أتأسف لأن مدن اليوم لا تعرفها كثيرا، أو على الأقل الكثير من الأحياء، حيث يضيع الكثير من الطعام بدل منحه لمن يستحقه في ظل الإسراف غير الطبيعي في استهلاك الأسر في رمضان. بالنسبة إلى مائدة الإفطار، من هو الشخص الذي تكونين حريصة على أن يكون بجانبك دائما؟ أحرص على وجود أبنائي بجانبي حول مائدة الإفطار، ولو أنهم يفضلون الإفطار بسرعة للالتحاق بالتلفاز الذي انقطعت علاقتي به، وأرفض الأكل في حضوره، إلا إذا كان فطوري خارج البيت، حينما تحكم الظروف بذلك. ولجت عالم السياسة عبر بوابة الحزب مذ كنت في ريعان شبابك. ألم تسرق منك السياسة أوقاتا ولحظات خاصة كان يفترض أن تمضيها إلى جانب أسرتك وأبنائك؟ نعم السياسة تأخذ وقتا ومجهودا كبيرا إلى درجة الاستنزاف، والأصعب هو حينما تحضر معك العمل إلى البيت حينما يتعلق الأمر بإعداد التقارير والأوراق وتهييء الأعمال المنتظرة. كل السياسيين يحاولون التوفيق بين ذلك وبين متطلبات الحياة الأسرية والوقت الواجب تخصيصه للأبناء، ولا يمكن أحدا أن يزعم أنه ينجح في ذلك تماما. لكل اختيار كلفة وتضحيات، لكن الأهم هو نوعية العلاقة التي نربطها مع الأبناء، وهي عادة لا ترتبط بكثرة الحضور الفيزيائي، بل ترتبط بمدى تحقق التواصل في العلاقات، وهو ما أحرص عليه ما استطعت. إن الأمر يرتبط بطبيعة الشخصيات. ما هي الأمور التي كنت تريدين دائما تحقيقها لكن السياسة منعتك أو أبعدتك عنها؟ ما كنت أتمنى فعلا تحقيقه هو الكتابة والتعمق في القراءة، وتخصيص أطول وقت لذلك، وأشعر بأنني لو تفرغت أكثر فسأستطيع أن أكتب، لكن طبيعة المهام السياسية والانتدابية تمنعني من ذلك، حيث تستنزف الجهد، وتتحول تدريجيا إلى مهام تقنية دون عمق، حيث إن الانخراط في الممارسة السياسية دون تأسيس نظري وفكري يدفع إلى السطحية والارتهان للسهولة، وأحيانا إلى بعض الغرور الذي تزرعه الميكرفونات في الأشخاص، حيث يصبح الخطاب السياسي نمطيا وكأنه تمرين أو تدريب يخضع له القادمون الجدد، لذلك، صرنا نتحدث عن فقر النخب وغياب النقاش والمبادرات والأفكار، لأن الجميع صار مقلدا، يفكر ويعبر من داخل نسق صلب، لا يحتفي بالمختلف، بل يلفظه لأنه يشكل خطرا على استقرار البنية بمعناها الفكري. لماذا اخترت ولوج حزب العدالة والتنمية بالضبط؟ تأثرت في طفولتي بطالبات جامعيات ينتمين إلى الفصائل الطلابية التابعة للحركة الإسلامية، كنت آخذ منهن الكتب وأقرأ ما كان يتجاوز مستواي، وكنت أستمع بكثير من الانبهار لنقاشاتهن، وكنت أنخرط فيها باندفاع وحماس. كان العمل التنظيمي كما حكين عنه مغريا بالنسبة إلي، هكذا بدأ المسار ثم العمل في الجمعيات التابعة للحركة التي تشكل خلفية الحزب الفكرية والبشرية، ثم الانخراط في الحزب بصفة مبكرة. كان الحزب فضاء للتكوين والفعل والمبادرة من أجل التغيير، وتلك كانت الحوافز التي دفعتني إلى الانتماء إليه. ألم تفكري يوما في أخذ استراحة من السياسة؟ الابتعاد ربما عن صخبها، خاصة بعد الحملة التي تعرضت لها أخيرا؟ حملات الاستهداف ليست جديدة علي، كنت دائما ضحية لها، وقد تمكنت من تطوير آليات دفاعية للصمود، حينما فهمت أنني موضع استهداف، وأن مساحة قبول المواقف المختلفة بدأت تضيق، إلى درجة محاولة الاستئصال والاغتيال الرمزي. كنت أعتبر أنها كلفة السياسة بطريقة مختلفة فيها قدر من الاستقلالية والحرية. الجديد بالنسبة إلي في الحملة الأخيرة هو تحالف أطراف داخل الحزب مع الأطراف الخارجية التقليدية، ليشتد الاستهداف بعنف أكبر. هذا المتغير كان مؤثرا، لا أستطيع أن أنفي ذلك، حيث شعرت بتحامل غريب من لدن بعض رفاق ورفيقات الدرب، وصل في بعض الأحيان إلى الشماتة المباشرة. ولو أنني لا أميل إلى خطاب الشكوى والتذمر، فإن ما حدث لم يكن عاديا، وهو ما جعلني آخذ مسافة للتأمل ومراجعة الكثير من البديهيات، حيث كنت أنخرط في معارك كبيرة دفاعا عن الحزب ودفاعا عن أشخاص إيمانا مني بأن النضال التزام أخلاقي يتطلب الكثير من التجرد والتضحية، وحينما وجدت نفسي في «الكوليماتور»، اكتشفت أن الكثيرين يفكرون ويتصرفون حسب المصلحة، لكن، لحسن الحظ، يوجد دائما أشخاص رائعون ومختلفون يجعلون كل الأحكام نسبية، لذلك، بعد كل تجربة، لا بد من استخلاص الدروس والعبر. لماذا ماء العينين هي المستهدفة الأولى في الحزب عكس زميلاتها؟ ماهية السياسة هي الموقف، والموقف يعبر عنه بالكلام والتصريح، وكلما توقفت عن التعبير والتفاعل مع الأحداث، كنت أقرب إلى الأمان، لكنك في الوقت نفسه تبتعد عن جوهر السياسة. الملاحظ أنه يمكن أن يظل أحدهم قياديا حزبيا في المغرب دون أن يسمع له صوت أو رأي أو موقف في كل القضايا الكبيرة التي تتفاعل في البلد. لقد تطور النسق السياسي والمؤسساتي في المغرب في اتجاه الثقة أكثر في حزب الصامتين، لذلك، ترين أن قاعدته تزداد اتساعا، حيث يقوم على تدبير المسارات الشخصية والابتعاد عن القضايا الحارقة، وهو السبب الذي أدى إلى تسرب النخب من المشهد السياسي الذي صار مؤثثا بالكثير من السطحيين، ثم تطورت وسائل الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي التي توظف لعزل من يختار مغادرة دائرة الصمت. أصبح الناس خائفين، لقد عم الخوف إلى درجة الهلع، وأتصور أن الأمر يصيب السياسة في مقتل، ويخلف الفراغ، ويكرس نزيف الثقة المتنامي. هل يسعنا القول إن ماء العينين هي الضحية الأولى لمواقفها؟ لا يمكنني أن أجزم بذلك، لكني بالتأكيد مارست السياسة بطريقة مختلفة، وخلقت تميزا في كل المؤسسات التي اشتغلت بها، وعبرت عن مواقف لم تكن مرضية لمن حولي، وهو ما خلف عداوات نتيجة فقر الحس الديمقراطي الذي يقبل بالاختلاف ويفصل الذوات عن المواقف. لا يمكنني أن أنفي أنني ارتكبت أخطاء في مساري كانت نتيجتها كل هذا العداء والحقد الكبير الذي جعلني موضع استهداف خارج الحزب، ثم انتقلت تصفية الحسابات إلى داخل الحزب أيضا، حسب معادلة السلطة ومن يملك التأثير أكثر، وكلما ابتعدت في مواقفك عن مهادنة من يملكون السلطة، وجدت نفسك ضحية لهم، لذلك، يختار الناس محاباة من يوجدون في موقع القرار، حيث يكون الحرص كبيرا على تدبير المسار الشخصي دون مشاكل. كيف هي علاقتك بالكتب؟ هل أنت من المواظبين على القراءة خلال شهر رمضان؟ أكثر ما أتأسف عليه هو تراجع معدل القراءة في حياتي بسبب كثرة الانشغالات والالتزامات، حيث كنت أقرأ بنهم في مراحل سابقة، وأعترف بأنها معاناة متجددة تلك التي أعيشها لأحافظ على القراءة والاطلاع، وإن كنت أفعل ذلك أكثر على الهاتف أو في السيارة، حيث أنصت إلى مداخلات المفكرين والفلاسفة والأدباء. أما بالنسبة إلى رمضان، فهو يمنح وقتا أكبر للقراءة والتأمل، وأنا أحاول استثمار ذلك. يرى الكثيرون أن حزب العدالة والتنمية ذا المرجعية الإسلامية قام في السنوات الأخيرة بمراجعات فكرية عديدة. ما رأيك في ذلك؟ لا أتصور أن حزب العدالة والتنمية تمكن من مأسسة مراجعاته ونقاشاته المتعلبة بالقضايا الطارئة المفروشة في النقاش العمومي، وعلاقتها بمرجعيته وخلفيته النظرية، لذلك، لا نجد كتابات مرجعية في هذا الإطار، كما لا نجد فضاءات تحتضن هذا النوع من النقاش خارج ما هو سياسي وتدبيري. تقديري أن المراجعات تتعلق أكثر بمسارات الأشخاص داخل الحزب وتجاربهم ومواقعهم، وكلما كان نفوذ الشخص داخل الحزب كبيرا، تمكن من إقحام مراجعاته داخل البنية، والدفاع عنها بتوظيف سلطته المعنوية لتبدأ في الانغراس، وكلما كان صاحب الرأي الجديد دون سلطة، واجهته البنية بعنف وانغلاق أكبر، وهذا طبيعي داخل التنظيمات. مثلا، يمكن أن يصدر عن قيادي له سلطة ونفوذ رأي قد يعتبر صادما، فيجري قبوله والتصالح معه طوعا أو كرها، لأن الأمر يتعلق بحسابات وإكراهات، وإذا صدر الموقف نفسه عمن هو أقل نفوذا، يواجه ويُرفض. عموما، أتصور أن انخراط الحزب في تدبير الشأن العام، واحتكاكه بهموم المجتمع، فرض عليه مراجعات كبيرة أظنها مرشحة للتنامي.
هل تقصدين أن موقع ونفوذ الفرد داخل الحزب هو المعيار المتحكم في خطاب العدالة والتنمية؟ ليس بالضبط، هذه محاولة تحليل فلسفية إن شئت.
ما الذي غيرته المسؤوليات الحزبية المتوالية التي تقلدتها في آمنة ماء العينين الإنسانة؟ لا يمكن ألا يتغير المرء انطلاقا من التجارب التي يعيشها. لقد راكمت تجربة ليست بالبسيطة، وكل ذلك أثر بشكل كبير في شخصيتي، ومازلت أجري مراجعات وأستفيد من الأخطاء، وأغادر أكثر مجال الطوباويات والقطعيات الحالمة، لكنني متشبثة بقيم النضال والممارسة السياسية في عمقها باعتبارها انتصارا للحق ودفعا للظلم. نعم، يتغير الإنسان في داخلنا حسب التجارب التي نمر منها، لكن أهم ما تعلمته هو التنسيب في الأفكار كما في العلاقات. كيف هي نظرتك إلى الحياة اليوم؟ نظرتي إلى الحياة نظرة تفاؤل، أنا إنسانة مرحة وأحب الحياة بجمالها وبساطتها، لدي علاقات واسعة وأحب الناس، وأكره الأذى والظلم و«الحكرة»، وأبذل ما استطعت لأواجه ذلك، لكنني متشبثة بالأمل لأنني مقتنعة بأن التغيير ممكن وأنه آت، وأن المغرب يستحق وضعا أفضل من وضعه الحالي بالنظر إلى كل المؤهلات التي يزخر بها.