المعطي منجب مؤرخ وأستاذ العلوم السياسية لماذا يتم اللجوء إلى المفاوضات السرية؟ كل الأنظمة السياسية، وخصوصا غير الديمقراطية تلجأ إلى المفاوضات السرية مع معارضيها. لأن الأنظمة الديمقراطية لا تلجأ في الغالب إلى المفاوضات السرية إلا في الأمور الخارجية، وخاصة في الأوضاع غير الديمقراطية أو غير الشفافة بطبيعتها، كحالات الحرب أو الاستعمار أو في ما بين الدول أي في الدبلوماسية. إن الأنظمة السلطوية ومن ضمنها المغرب تلجأ إلى السرية، وذلك لأسباب عديدة يمكن أن نذكر من بينها أن النظام يعتقد أنه سيمنح مشروعية لمن يتفاوض معه من المعارضين، إذا علم الرأي العام بذلك. كما أن الطبيعة السرية تسهل على النظام خلق الشقاق بين المعارضين وتشتيت قوى الخصم واستمالة “المَصلحِيين” منهم على حساب المدافعين عن المبدأ أو عن منفعة الجماعة، وهذه يمكن أن تكون حزبا أو نقابة أو جمعية أو شعبا بكامله. إذن، المفاوضات السرية تضعف المعارضة، ورقابة الجماعة على القيادة وتخدم الاستراتيجيات الفردانية والوصولية. ولهذا نجد المهدي بنبركة في كتابه “الاختيار الثوري” يلح على أن تجربة المفاوضات مع القصر “بعيدا عن الجماهير” كانت خطأ كبيرا وفشلا ذريعا، وأنه على المعارضة تجنب هذا المنهج، إذا ما أرادت فرض الإرادة الشعبية على النظام. كما أن هناك مثلا مفاوضات أو لنقل محادثات سرية وغير مباشرة لا تخلو من إبهام أحيانا أثناء أزمة البلوكاج سنتي 2016-2017، كانت نتيجتها عزل بنكيران سياسيا داخل الأمانة العامة للحزب، ثم الإطاحة به كرئيس معين للحكومة، ثم كأمين عام للبيجيدي. ويجب انتظار عشرات السنين أو تغير النظام لتظهر وثائق وشهادات عن هذه المفاوضات. بهذا المعنى هل المفاوضات هي حل لأزمات النظام أم وسيلة لامتصاص غضب المتفاوض معهم؟ ليست هناك قاعدة عامة. قد تؤدي المفاوضات السرية إلى نتيجة عملية وقد لا تؤدي إلى أي شيء، وقد يكون كما قلت في السؤال هدفها الوحيد امتصاص غضب الخصم وجبر خاطره، وقد تؤدي إلى إدماج بعض المعتدلين أو النفعيين في النظام. وهذا حدث مثلا مع بعض شخصيات اليسار الوطني في بداية التسعينيات (مجلس الشباب والمستقبل) أو اليسار الجديد خلال العقد الأول من الألفية (هيئة الإنصاف والمصالحة… ثم البام). أحيانا لا يتعلق الأمر بمفاوضات بالمعنى المعروف، هو جلسات قد تكون اجتماعية ظاهريا أو حتى شبه حميمية في حانة أو مطعم دون برنامج محدد. المفاوضات نوع من الغزل الاجتماعي – السياسي قد تؤدي إلى نتائج أو قد لا تؤدي، كما أن المشاركين فيها من جانب المعارضة في الغالب ما ينقسمون إلى جناحين أو أكثر وتتفرق بهم السبل، خصوصا إذا كانت هناك نتيجة عملية، أي يتم إدماج البعض في النظام، عبر مبادرة أو مشروع سياسي جديد، لمن يقبل تقديم تنازلات، وتهميش من لا يقبل التنازل عن المبادئ أو عما اتفق حوله قبل الدخول في المفاوضات. هذه الاختلافات في التقدير أو في انتهاز الفرصة لتحقيق منافع شخصية، تنتج عنها عداوات متأصلة وشكوك وإشاعات تؤدي ببعض الناس إلى اعتزال النشاط السياسي والمدني، مع الاحتفاظ أحيانا بمرارة رهيبة. نرى هنا أن القبول بالدخول في مفاوضات سرية مع النظام في المغرب، يؤدي في الغالب إلى تشتيت قوى المعارضة وإحباطها نفسيا والفت في عضدها أخلاقيا وسياسيا… هل تعتقد أن المفاوضات السرية اختلفت سياسيا من ملك إلى آخر، ثم ما الذي يميز كل فترة على حدة؟ كانت المفاوضات على عهد الحسن الثاني مع أحزاب قوية في الغالب كحزب الاستقلال و الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي سيصبح الاتحاد الاشتراكي ابتداء من أواسط السبعينيات. نظام الملك محمد السادس، تفاوض مع جماعات صغيرة ومع بعض الشخصيات المؤثرة وغير الحزبية مع بعض الاستثناءات كما حدث خلال الربيع المغربي سنة 2011… ولكن يجب القول إنه من الصعب التعميم، خصوصا أن الحسن الثاني بقي في الحكم ما يقرب من أربعين سنة ومحمد السادس بقي في الحكم منذ عشرين سنة. لماذا كان المغرب يستضيف مفاوضات سرية في العديد من القضايا الخارجية والحساسة، هل لك أن تكشف خباياها ودوافعها؟ نعم، كان المغرب مكانا لعقد مفاوضات سرية بين الإسرائليين والمصريين خلال السبعينيات مثلا، وأدى هذا إلى اتفاقات كامب ديفيد بين أنور السادات ومناحيم بيغن… هناك مثال آخر هو مشاركة المغرب في المفاوضات السرية التي جرت بالمغرب وخارج المغرب بين مصر وإيران وفرنسا وإسرائيل والسعودية… مع مشاركة من مستوى منخفض للولايات المتحدة، لمواجهة الحركات الثورية واليسارية في القارة الإفريقية، أدت هاته المفاوضات إلى خلق نادي سفاري (Club Safari ) بين الأجهزة السرية لهاته البلدان. لم يعمر هذا النادي طويلا لحسن الحظ لأسباب عديدة منها سقوط نظام الشاه، ثم اغتيال السادات، ثم اهتمام السعودية بأفغانستان، ابتداء من الاحتلال السوفياتي نهاية السبعينيات ووصول اليسار إلى الحكم بفرنسا، وقبله انتخاب جيمي كارتر كرئيس للولايات حيث كان على المستوى الشخصي يتصف ببعض الحس الإنساني لا يمكن أن يشجع على أهداف ووسائل النادي، والتي كان بعضها إجراميا… وهنا يجب ألا ننسى أن جيمي كارتر قد قام “بعزل” الملك حسين كعميل مأجور لوكالة المخابرات الأمريكية مباشرة بعد وصوله إلى البيت الأبيض سنة 1977، وفي الاتجاه نفسه لم يهتم كفاية ب”نادي سفاري”.