محمد شقير – المتخصص في الشؤون الدستورية والسياسية لماذا ارتبطت المفاوضات التي جرت في المغرب بالغموض والسرية؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن العمل السياسي يتضمن جانبا من السرية والغموض، حيث يلجأ الفاعلون السياسيون إلى إنجاح بعض مهامهم ومأمورياتهم السياسية، إلى السرية لجس النبض وعدم المغامرة بالمشاركة في عمل أو مشروع سياسي قد يفشل. إلى جانب ذلك، فالاتفاقيات التي يتم التوصل إليها، عادة ما تتضمن في الغالب بعض البنود التي تبقى سرية. إذا رجعنا إلى المغرب، فقد كانت الممارسة السياسية تتم دائما وراء أسوار القصر الملكي، خاصة في عهد الحماية، حيث كان الملك الراحل محمد الخامس يعقد اجتماعات مع قادة الحركة الوطنية بعيدا عن أعين أجهزة الإقامة العامة. كما درج قادة الأحزاب بعد الاستقلال على اللقاء في بعض البيوت لاتخاذ القرارات السياسية، سواء في التحالف بينها أو في التفاوض مع القصر. ولعل هذا ما كان يدفع بأجهزة الملك الراحل الحسن الثاني إلى اختراق بعض الأجهزة القيادية للتعرف على ما دار في هذه الجلسات السياسية الخاصة التي كانت تنظمها بعض مكونات المعارضة، خاصة الاتحادية. فمنزل عبدالرحيم بوعبيد عادة ما كان مكانا يلتئم فيه بعض قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حينما كان في المعارضة. كما لا يجب أن ننسى أن الحسن الثاني في إطار تهييئه للتناوب وخلافة ابنه على العرش، كان قد استقبل عبدالرحمن اليوسفي في سرية تامة بعدما قدمه لأبنائه كمهرب أسلحة، بالإضافة إلى هذا من المعروف أن الملك سبق له في محاولة الاتفاق مع المهدي بنبركة بعد أحداث الدارالبيضاء، أن بعث ابن عمه مولاي المهدي للتفاوض معه بشأن عودته إلى المغرب في إطار مصالحة سياسية، أجهضها وزير الداخلية آنذاك، الجنرال أوفقير. علاوة على ذلك، ففي عز الحرب التي كانت دائرة بين القوات المسلحة الملكية بالصحراء، ومقاتلي جبهة البوليساريو، عقد الملك مفاوضات سرية ترأسها ولي العهد آنذاك، بحضور وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري مع بعض قياديي الجبهة قصد التوصل إلى تسوية سياسية، لكن بدون نتيجة. أضف إلى ذلك، فقد زاوج الملك في تعامله مع جماعة العدل والإحسان بين التشدد والتفاوض، إذ عمل على بعث بعض المقربين منه، خاصة وزير الأوقاف آنذاك عبدالكبير العلوي المدغري، للتفاوض بشأن تنازل هذه الجماعة عن بعض مواقفها من مؤسسة إمارة المؤمنين، مقابل السماح لها بولوج اللعبة السياسية، لكن يبدو أن هذه المفاوضات السرية لم تنجح. لماذا في اعتقادكم كانت المفاوضات السرية تلعب دورا مهما في حلحلة الأزمات؟ إن السياسة هي الجمع بين العنف والتفاوض، إذ إن الحرب التي تشكل الوجه الآخر للعنف الذي تلجأ إليه السلطة أو طرف من المعارضة يكون الهدف منه، دائما، هو التوصل إلى اتفاق أو تسوية عبر المفاوضات التي تكون إما سرية أو علنية. لقد كانت سياسة الملك الراحل في التعامل والتفاوض مع معارضيه، هي التوصل إلى تسوية أو صفقة من موقع القوة، إذ كان يرفض أن تملي عليه المعارضة مواقفها وقد ظهر ذلك حتى عندما اهتزت سلطته بعد المحاولتين الانقلابيتين، حيث رفض أن يستجيب لمطالب الكتلة، بعدما دخل معها في مفاوضات عسيرة، انتهت برفض الملك لمطالب المعارضة، ولعل الشيء عينه قام به أثناء التحضير لعملية التناوب، فقد رفض شرط الأمين العام السابق لحزب الاستقلال الراحل امحمد بوستة، بإبعاد وزيره في الداخلية إدريس البصري، معتبرا إياه بمثابة مؤسسة مقدسة، ومدركا في ذلك الآن نفسه إمكانية اللعب على انقسامات وخلافات الكتلة، المتمثلة في التنافس السياسي بين الخصمين اللدودين، حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حيث استطاع إقناع اليوسفي بقبول ما رفضه غريمه، وبالتالي، فقد كان تفاوض الملك هو نوع من التكتيك السياسي الذي كان يلجأ فيه إلى السرية من جهة، واللعب على خلافات وتناقضات خصومه من جهة أخرى، الشيء الذي استعمله في الاتفاق مع القذافي لتحييده من الصراع حول الصحراء، حيث لجأ في ذلك، أيضا، إلى السرية التامة، إذ تم الاتفاق على معاهدة وجدة دون علم أمريكا، ولا حتى الجزائر. ما الذي يميز المفاوضات السرية التي جرت على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وفترة حكم الملك محمد السادس؟ يمكن القول إن فترة الملك الراحل الحسن الثاني تميزت بالمفاوضات السرية نتيجة لعدة عوامل، منها الطابع الفردي الذي ميز أسلوبه في تسيير الحكم وطبيعة شخصيته السلطوية، إلى جانب أن عهده تميز بالصراع حول السلطة سواء في مواجهة خصومه الداخليين، خاصة حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي خلف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وخصومه الخارجيين من أنظمة قومية ناصرية أو بعثية. أضف إلى ذلك تداعيات الحرب الباردة التي كان يتم فيها التنافس على قلب الأنظمة، خاصة الأنظمة الملكية التي كانت تصنف ضمن الأنظمة الرجعية، كما أن المحاولتين الانقلابيتين انضافتا إلى كل هذه العوامل لتجعل الملك الراحل يلجأ في الكثير من الأحيان إلى المفاوضات السرية كأسلوب لمباغتة خصومه، وكذا لترك المجال لاستباق الأحداث وإنضاج مشاريعه السياسية. لم يقتصر دور المفاوضات السرية على ما هو وطني، بل استعملت من طرف المغرب للعب أدوار خارجية، كيف ذلك؟ يبدو أن الملك الراحل الحسن الثاني وظف حنكته السياسية وعلاقاته الأجنبية، لكي يقوم ببعض الأدوار الدولية، كان من أهمها الوساطة في ملف الشرق الأوسط الساخن، خاصة القضية الفلسطينية وقضية السلام. فقربه من الغرب، ومن فرنسا والولايات المتحدة، تحديدا، وعلاقاته ببعض قادة وملوك بعض الدول العربية، جعله يشرف على تنظيم عدة مؤتمرات عربية وإسلامية، كمؤتمري الرباط وفاس، إلى جانب تدبيره مفاوضات سرية كاللقاء الذي تم مع بيريز، والذي مهد على ما يبدو لاتفاق “أسلو” فيما بعد، حيث لعب الملك دورا أساسيا. ومن خلال هذه المفاوضات عمل على التقريب ببن وجهات الأطراف المتحاربة، وتهييء الأرضية المناسبة للتعرف على المواقف السياسية المتباينة بهذا الصدد.