حضرت، يوم الجمعة الماضي، قسما كبيرا من لقاء نظّمه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، دعا إليه عددا من ممثلي المجالس والمؤسسات الدستورية، وطيفا واسعا من الفاعلين الحقوقيين والمدنيين الذين واكبوا الاحتجاجات الشعبية التي عرفها المغرب في الفترة الأخيرة، خاصة منها احتجاجات الريف وجرادة. منذ انطلاق أشغال اللقاء، وكلّما تقدمت جلساته وتناوب على الميكروفون المشاركون فيه؛ كانت ذاكرتي تعود بكثير من الإصرار إلى لقاء مماثل شهدته القاعة نفسها من الفندق نفسه الذي يطل على مصب وادي أبي رقراق، أواخر شهر مارس 2011، نظمته مؤسسة إدريس بنزكري لحقوق الإنسان والديمقراطية. يومها كان الشارع مشتعلا، ورؤوس الأنظمة العربية تسقط تباعا من تونس إلى مصر مرورا بليبيا، وخطاب 9 مارس الملكي يتردّد في آذان الجميع كلما رفعت شعارات «الشعب يريد» في شوارع وأزقة أكثر من 50 مدينة مغربية. وشارك في ذلك اللقاء رؤساء سبع مؤسسات ومجالس دستورية كان الملك قد بادر إلى تجديد دماء بعضها. هل أذكّركم بما قاله هؤلاء المسؤولون يومها؟ يمكنني دون أي مجازفة أن قول لكم إن رؤساء مؤسسات التقنين والحكامة والوساطة رفعوا يومها شعارات حركة «20 فبراير» داخل قاعة الفندق، وتنافسوا في ذلك مع أكاديميين وحقوقيين. الرجل الذي كان الملك قد عيّنه قبل أيام قليلة أمينا عاما للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، محمد الصبار، قال إن الظهير المحدث للمجلس الوطني لحقوق الإنسان يتضمن التزاما صريحا من المؤسسة الملكية، وإشارة إلى الحداثة وتكريس حقوق الإنسان. أما رئيس الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري حينها، أحمد غزالي، فقال إن الهيئة أُسست في إطار مشروع ديمقراطي حداثي، «وقناعتنا هي أننا أداة للتغيير وشركاء فيه». الرئيس السابق لمجلس المنافسة، عبد العالي بنعمور، تحدث كأي شاب «فبرايري»، وقال يومها إن الكرامة «ترتكز على دعامتين هما الحرية وتلبية الحاجيات الأساسية للعيش». أما سفير المغرب الحالي في بريطانيا، عبد السلام بودرار، فرفع، بصفته رئيسا للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، عقيرته مشتكيا صعوبة ولوج المعلومات، وافتقار هيئته إلى الصلاحيات التنفيذية… اليوم، ونحن أمام محاولات بطيئة لإطلاق مبادرة مماثلة، رغم أن جل المصادر تؤكد أن الخطوة كان يفترض أن تنطلق منذ شهور طويلة مسنودة بأمر ملكي يقول: «اذهبوا إلى أبعد مدى»، كما كشف ذلك رئيس هيئة محاربة الفساد، بشير الراشدي؛ هل يمكن أن ننتظر نفسا ودينامية جديدين على غرار ما وقع بعد مارس 2011؟ لنسجّل أولا أن جلّ هذه المؤسسات المرتبطة بأعلى هرم الدولة جدّدت قوانينها ورؤساءها، وحازت صلاحيات تنفيذية واسعة، وارتفعت نسبة تأنيثها… لكن، وأنا أتابع أشغال لقاء الجمعة، انتابني شعور بأن ما أتابعه أشبه بالجسم المخدّر. شيء ما يقيّد هذا المغرب ويمنعه من كسر القيود والانطلاق من جديد. أهو عجز النخب السياسية والإدارية، أم أحد أعراض ازدواجية شخصية الدولة التي عبّر عنها رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، والمتمثلة في وجود دولة الملك ودولة أخرى، أم هي طبيعة الشخصيات المعينة على رأس هذه المؤسسات، والتي تجعلها غير قادرة على الذهاب إلى أبعد من إعارة ظهرها لتلقي «العصا» بدلا من المسؤولين الحقيقيين، كما يفعل شوقي بنيوب حاليا؟ في زمن الحكمة اليونانية، قال الفيلسوف «هيراقليطس» إننا لا نستطيع أن نستحم في النهر مرتين. كان هذا الفيلسوف يقصد أن الماء الذي نستحم فيه لا ينتظرنا لكي نعود إليه مرة أخرى، بل يمضي في طريقه عبر مجرى النهر. فكرة قد تنطبق على محاولة استخدام الطريقة نفسها لدفع مؤسسات التقنين والضبط والحكامة إلى إطلاق دينامية جديدة. لكن، لو عاش «هيراقليطس» في زمن لاحق لاستخدم مثالا آخر عوض استحالة الاستحمام في النهر مرتين، لأن الأمر لم يعد مستحيلا بعدما أصبح بالإمكان السير بسرعة أكبر من سرعة جريان الماء. المشكلة الحقيقية هي: ماذا فعلنا بالماء الذي استحممنا فيه إبان الربيع العربي؟ فعلى افتراض أن النهر لم يجرِ بسرعة كبيرة، وأننا ركبنا البراق لنعترضه ونستحم فيه من جديد، فإننا حتما سنفشل إذا وجدنا هذا الماء ملوثا. ومنذ لحظة المصادقة على دستور يوليوز 2011، يمكننا أن نتصوّر الكم الهائل من النفايات الصلبة والسائلة التي ألقينا بها في نهر تنزيل وتأويل الدستور، وكم من المؤسسات والمشاريع الإصلاحية «نفقت» وطفت جثثها فوق الماء. أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام، ومجلس أمينة بوعياش أشعل شمعة يوم الجمعة الماضي، لا شك في ذلك. لكننا، ونحن نبحث عن منفذ يخرج الدولة والمجتمع من حالة الشك والخوف التي دخلاها معا، لا يمكن أن نراهن على دهن الجروح المتقيحة بمراهم تجميل البشرة. والتعويل على مجالس الدولة كان له ما يبرره في مرحلة كنا نعتقدها انتقالية ستمهّد لعهد دولة القانون والمؤسسات. إن المنطق الذي أضعف المسار الديمقراطي، وأفرز حكومة كسيحة وبرلمانا مشلولا وصحافة محتضرة، هو نفسه الذي أضعف قدرة الدولة على المبادرة ومؤسساتها على التعبئة والإقناع. والمنفذ الوحيد لاستعادة الثقة هو إعادة سهم البوصلة إلى وجهة الديمقراطية الحقيقية، وفك التحالف بين السلطة والرأسمال، وإعادة المؤسسات الأمنية إلى أدوارها الأصلية تحت سلطة ورقابة المجتمع ومؤسساته، والإفراج عن المعتقلين السياسيين والإعلاميين، مع التحلي بشجاعة الاعتراف بالخطأ وضمان عدم تكراره. أما الاكتفاء بمحاولة الاستحمام في النهر نفسه من جديد، دون تنظيف مجراه، فلن يعني أكثر من الارتماء في مياه ملوثة.