هل يختلف اثنان على أن قتل سائحتين في شمهاروش، واغتصاب طفل ثم قتله في مكناس، والاعتداء الوحشي حدَّ الموت على سيدة بالرباط… هي أفعال قمة في العنف والبربرية؟ لا، لا يختلفان. لكن قليلين، وأنا منهم، يختلفون مع كثيرين في رد فعلهم العنيف على مثل هذه الحوادث، ويرون أن رد الفعل ذاك يمكن أن يكون أكثر بربرية من الفعل نفسه لولا أنه تعوزه السلطة. أتفهم أن يصرخ أقرباء الضحايا: «لا شفاء لنا سوى القصاص والإعدام». قد أتفهم، حتى، أن تقفو أثرهم جماهير غاضبة تجد فرصتها في حوادث صادمة، لتفجير مخزونها من الغضب والحقد والكبت والقمع… لكن، أن تجد فلاسفة مواقع التواصل الاجتماعي يُنظرون للثأر والانتقام معتقدين أنهم يتحدثون عن العقاب، فتلك هي الطامة الكبرى. وهل هناك طامة أكبر من أن تقف الجماهير ونخبها الافتراضية على يمين الدولة، حقوقيا، متبنية خطابا فاشيا جارفا؟ أقول جارفا، لأننا في لحظة عنيفة مثل 16 ماي 2003، طلع علينا صحافي محترم، هو أحمد رضا بنشمسي، يطالب بالقصاص من المتورطين في تلك المجزرة الرهيبة دون احترام للقانون وحقوق الإنسان. لقد كان بنشمسي، حينئذ، صحافيا فردا يكتب في مجلة نخبوية، ولا تأثير له في مواقع التواصل الاجتماعي التي لم يكن لها التنوع والانتشار والتأثير الذي تملكه اليوم، ثم مافتئ بشمسي أن استدرك زلته وكفَّر عنها في مقالات ومواقف مشرفة، وها هو اليوم مسؤول حقوقي عالمي في هيومن رايتس ووتش، يدافع عن حق المجرمين والإرهابيين في التمتع بشروط اعتقال إنسانية وبمحاكمة عادلة. دعنا من بنشمسي، فنحن، اليوم، أمام خطاب عنيف جارف على مواقع التواصل الاجتماعي، يطالب بإعدام حقوق الإنسان قبل إعدام المتورطين في جرائم القتل والاغتصاب… فكيف يمكننا تقويم جيل غارق في رومانسية عنيفة، يستبدل العقاب بالانتقام، معتقدا أنه الناموس الذي سيملأ الأرض عدلا بعدما امتلأت قتلا واغتصابا! هناك قاعدة تقيدنا جميعا؛ من لا يمنح الحياة للبشر لا يحق له أن ينزعها منهم. قد يقول قائل إن من منح الحياة للبشر هو الذي قال لنا: «الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى»، لكنه –سبحانه- قال لنا أيضا: «النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص». فهل مازال الضمير الأخلاقي الإنساني يتحمل، اليوم، تشويه الأجساد وقطع الأيادي وجدع الأنوف؟ إن بعض أشكال وأحكام القصاص أصبحت اليوم، بقوة الواقع، تاريخية، لأنها باتت تنافي روح الدين ومقاصده التي ينبغي ألا تدابر الاجتهادات الإنسانية في مجال حقوق الإنسان، وإلا سنعتبر كثيرا من أحكام داعش من صميم الإسلام مادامت تنهل من نصوص في القرآن والسنة. إن مثل هذه الحوادث وردود الأفعال التي تعقبها، يجب أن توقظ الدولة والنخب الحداثية للانتباه إلى أن بعض المعارك التي تفتحها مع التنظيمات الإسلامية، أصبحت دونكيشوتية، لأنها تشغلها عن المجتمع الذي يتجه إلى أن يصبح إسلاميا -إسلاميا وليس محافظا- دون حاجة إلى الإسلاميين، بل أحيانا –ويا للمفارقة- دون حاجة إلى التدين؛ ومن يشكك في هذا فليدخل إلى حانة ويسأل روادها عن موقفهم من إلغاء عقوبة الإعدام أو من الحجاب. أما إذا تحدثت عن المساواة في الإرث، فمن المؤكد أن صوت القناني سيلعلع فوق الرؤوس لعلعة السيوف. لنكن متأكدين من أن هذا العنف المتنامي وسط المجتمع لن تستطيع مقررات «للا نمولة» ولا فتاوى المجلس العلمي الأعلى، إطفاءه، مادامت الدولة تواصل مسخ الديمقراطية، وخنق حرية التعبير باليد نفسها التي تعبث بها بالتعليم، ومادام العقل السلطوي ذاته يصر على ممارسة العنف، باسم القانون، إزاء معارضيه ومخالفيه الرأي. أليس عنفا ذاك الذي ردت به الدولة وقضاؤها على عنف شباب الفايسبوك، حين اعتقلتهم وحاكمتهم بالقانون الجنائي بدل قانون الإرهاب؟ لا أتحدث هنا عن العنف الذي تحتكره الدولة، عادة، تجاه كل مواطنيها على السواء، بل عن العنف الانتقائي ضد مجموعة سياسية محددة. ثمة عنف آخر بات يسري داخل المجتمع مثل خدر لذيذ، وهو عنف الصورة. فقد أصبحت هواتفنا لا تستشيرنا في تعنيفنا؛ عندما تنقل لأطفالنا ومراهقينا، بالأساس، فيديوهات عنيفة ووحشية. إن تلك الفيديوهات المنتشرة بسرعة وعلى نطاق واسع، أخطر من الفعل الإجرامي نفسه، مهما بلغت إجراميته وفظاعة مشاهده، لأن الفعل الإجرامي يكون موجها إلى شخص أو أشخاص محدودي العدد، فيما الفيديو يطرق بعنفه مجتمعا بكامل فئاته. إن هذا العنف، الإعلامي المواطن، الذي يبدو أنه يتجاوز الدولة وأشكال رقابتها، تؤكد وسائل إعلام محسوبة على السلطة أن الدولة إما متورطة فيه وإما محايدة تجاهه، وإلا كيف نبرر حجم الانحدار الذوقي والأخلاقي العنيف، الذي طفحت به منابر السلطة هذه، والتي وصلت إلى حدَّ الاستعانة بخدمات «بارميطة» إعلامية، تهرف بما لا تعرف، للتشهير بوزير دولة وبناطق رسمي سابق باسم الملك! طوقوا هذا العنف.. طوقوه بالحرية المسؤولة وبالديمقراطية.. طوقوه بالتعليم وبالثقافة، وإلا فإنه سيأتي على الأخضر واليابس.