في الصباح الباكر، أرسل إلي السيد بريك رئيس الخدم مبعوثا على عجل، ليزف إلي خبرا مفاجئا: (سيدي يستعدللذهاب للعب الغولف، ويطلب حضورك). لكن شتان ما بين التعافي من المرض، حين لا يكاد المرء يقوى على الوقوف،وممارسة الرياضة، لو أن السيد بريك كان يتمتع بقليل من حس الفكاهة، لاعتقدت أنها دعابة سيئة، لكن الرجلمعروف بشخصيته الصارمة التي لا مثيل لها في المملكة بأكملها. ويبدو ذلك جليا في ملامح وجهه، إذ ترسم تجاعيدهالكثيرة والعميقة فيه تكشيرة أبدية، وكأنه انتهى للتو من تجرع كأس علقم… يومذاك رأيت سيدي مرتديا ثياب الغولف،وخلفه السيد بريك. نظرت إليه وأنا لا أصدق عيني، لكنني نجحت في إخفاء شعوري. وقبل أن ينتهي العبيد منعبارات المديح المرهقة التي وجهوها للملك، قلت لرئيس الخدم وأنا أقبل يد صاحب الجلالة: آه يا سيد بريك، ها أنت ذا أخيرا. نظر إلي بحذر، فتابعت أقول: أريد أن أسألك خدمة يا سيد بريك. أنا أسمعك، أجاب بنبرة تكاد تكون باكية. جلس الملك الذي اعتاد أسلوبي الماكر، متوقعا دعابة وشيكة. فكرت كثيرا قبل أن أطلب مساعدتك، لا أظن أن هناك أحدا غيرك يستطيع إنقاذي. بكل سرور يا صديقي، ما يمكنني عمله لك؟ نحن على معرفة منذ سنوات… صحيح ولم أطلب منك شيئا، صحيح؟ تكلم ما الأمر؟ لن يزعجني أن ترفض لي طلبي. خسرت صديقا عزيزا جدا علي.. كان بمنزلة أخ. رحمة الله عليه، قال رئيس الخدم بوجه أكثر تجعدا من المعتاد. يجب أن أذهب بعد ظهر اليوم إلى جنازته.. لا أدري ماذا أقول.. أريد.. إن لم تجد مانعا.. أود أن أستعير وجهكلأذهب لتعزية عائلته.. لأن الله برحمته الواسعة منحك رأسا مثاليا لهذا النوع من المناسبات.. لو لم يضحك الملك لقتلني رئيس الخدم. ولكنه، وبفضل سرور سيدي الذي حماني، لم يجد مهربا من تهنئتي بابتسامةهي أشبه بتكشيرة بشعة. رغم أن سيدي استيقظ مرتاحا، إلا أن مزاجه ظل متقلبا، وعرضة لأن يسوء في أية لحظة. وقد نبهتني إلى ذلك سبابةالقائد موحا. لذلك أخذت حذري وأنا أجلس بجانب الملك في السيارة الضخمة التي قرر قيادتها بنفسه. سرنا فيطريق ملعب الغولف في طبيعة شبيهة بطبيعة سويسرا. بعد غابة أشجار القيقب والأوكالبتوس التي تحيط بالقصر،عبرنا حي السفارات، واجتزنا الجسر لننتهي إلى مدخل ذلك المكان الساحر الذي أحب أن أرافق مولاي إليه. الحمد لله يا مولاي. رمقني الملك بنظرة فاحصة، مدهوشا. حسنا، ولكن ماذا دهاك؟ لا شيء يا مولاي. أنا فقط أحمد الله. أليس هذا المشهد عجيبا؟ ابن المدينة في سيارة إنكليزية فخمة، وسائقه.. هوالملك بنفسه. النعمة تغمرنا يا سيدي. ابتسم الملك. لماذا أنا يا مولاي؟ لأنك محظوظ، ولأنك مبارك من والديك. لأنك رجل طيب يا محمد. المجيء من مدينة مراكش المكتظة، والتأمل في هذه المساحات الخضراء المنبسطة وغير المأهولة، هو أشبه بالدخولإلى الجنة التي لطالما حدثونا عنها في المدرسة القرآنية. عشب أخضر على مدى النظر فوق الروابي، وحول البرك،يصل حتى الأفق، حيث البحر يعانق السماء الزرقاء. ارتفعت في ذلك المكان أعلام غريبة مثلثة الشكل ترمز إلىالأثرياء، وسيارات صغيرة كالدمى تنقل أشخاصا، بثياب بيضاء وسحنة مسمرة رغم القبعات، يرفعون اليد بالتحيةويبتسمون بصورة آلية للسيارات الصغيرة الأخرى التي تقل أصدقاء لهم، ينتمون إلى العالم نفسه. ما كدنا نصل إلى صالون الشرف حتى سارع جمع من الوزراء في اتجاهنا لإلقاء التحية على الملك، مبادرينبالانحناء له من مسافة عشرة أمتار. بحركة من يده، صرفهم سيدي ومضى إلى الملعب حيث كان أحد حملة عصيالغولف في انتظاره. تفرق شمل الشخصيات (بكل وقار) فذهب هذا إلى البار، وآخر إلى حوض السباحة، وثالث إلىالشرفة المطلة على الملعب. لو أن هؤلاء المتملقين رأوا سبابة القائد موحا، لتواروا عن الأنظار، ونسوا التوقيع الملكيالذي يفتقر إليه عدد كبير من الملفات، والذي لا يمكن تصريف أي عمل بدونه. كان التأخير الذي سببه تدهور صحةالملك قد شل أعمال المملكة. وأثار تراكم الأمور الملحة لديهم قلقا كبيرا. شعرت بذلك من الاهتمام المفاجئ الذي أبدوهحيالي. فأخذوا يمتدحونني وكأن المديح ليس مهنتي، ويعدونني بمعسول الكلام وكأنني لست متضلعا من فن الكلام. كانوا يعرفون قدرتي على حل العقد الصعبة، فتحلقوا حولي محاولين إقناعي بتليين موقف الملك، وجعله يوقع ملفاتمستعجلة لا تحتمل الانتظار. كان بعضهم يرى في منقذا، وبعضهم الآخر شهيدا مستقبليا. كنت أعي ذلك تماماالواقع أنه كان يجب أن أكون منقذا وشهيدا معا. فمن المعروف أن الرسول يقوم بعمل فيه مجازفة.