منذ ما سمي بالتناوب التوافقي، يتم الترويج لمقولة أنه كلما كانت الجسور قائمة بين القصر والحركة الوطنية، كلما كانت الطريق سالكة نحو الاستقرار والتنمية والديمقراطية، وبالموازاة تم اعتبار لحظة “التوافق” بين ما كان يُسمى الكتلة الديمقراطية والقصر، معادلا موضوعيا للتوافق بين ما عرف في الأدبيات الكلاسيكية بالحركة الوطنية والسلطان الشرعي زمن الاستعمار.. اعتبرت تلك اللحظة تمهيدا لإمكان انتقال ديمقراطي، لكن الحقيقة التي تبدت من بعد، هي أن الأحزاب سليلة الحركة الوطنية كانت منهكة، وأن الملك الراحل كان مشغولا بانتقال العرش أكثر من الانتقال الديمقراطي.. في مناخ كان يعرف صعود فاعل جديد: الإسلاميون.. مقولة: التقاء إرادة القصر وإرادة الحركة الوطنية، ستتم إعادة إنتاجها مرة أخرى، حين سيصل جزء من هؤلاء الإسلاميين إلى الحكومة.. وقد عبر عن ذلك رئيس الحكومة السابق بصيغ مختلفة، أهمها: لا يمكن للقوى الإصلاحية أن تنجح وهي تنازع الملك.. المتغير هو الانتقال من “الحكم مع الملك” إلى “الحكم وفق توجيهات الملك”.. قبل هذه المحطة، كانت تمارين في الانتقال الديمقراطي عبر بوابة “العدالة الانتقالية”.. التي يفترض أن تبنى على المصالحة لا على التوافقات، غير أن الفاعلين في هذا المسلسل كانوا غير متجانسين: قلة من ذوي النيات الحسنة، وكثير من محترفي الالتفاف والانتهازيين.. ذرفت كثير من دموع التماسيح، واستخرجت شهادات حسن السيرة والسلوك،، وقيل إننا “دفنا الماضي”. لكن “زمن الأخطاء” استأنف دورته.. لم تكن الملكية أكثر قوة منذ الاستقلال مما عليه اليوم، ويحاول جزء من مناوئيها في الماضي، الذين أصبحوا خاضعين لها اليوم تبرير انتقالهم “الديمو- كراسي”، بالقول: إن الملكية في نسختها الإصلاحية لم تعد محل صراع ومنازعة، وإن المغرب ربح ويربح بهذا الوضع.. يقول بذلك سليل الحركة الوطنية، واليساري المنعطف يمينا، والإسلامي العائد إلى حضن “الإمامة الكبرى”. استطاعت الملكية أن تنهك خصومها، وأن تروض من لهم قابلية للتدجين، وأن تسمح للممانعين بهامش للحركة والنقد لا يؤثر على التوازنات.. اليوم، نحن أمام نظام سياسي هجين، تتسع فيه أحيانا هوامش حرية التعبير، لكن تتركز فيه السلط أكثر فأكثر في يد أقلية.. تنتظم فيه الانتخابات مع حياد أكبر للدولة بخصوص مخرجات الصناديق، ولكنها انتخابات تفرز حكومة لا تحكم، ومجالس منتخبة يتحكم فيها المعينون.. نظام قد يتساهل أحيانا مع انتقاد قرار أو مشروع ملكي، لكنه لا يسمح بالمحاسبة.. في هذه السلطوية التي تتراوح بين الناعمة والخشنة حسب السياق، تتركز السلط والثروة والقرار في يد أقلية، وتنعدم فيه المحاسبة، وتغيب السلط المضادة سواء من داخل حقل المؤسسات أو خارجها. هل يستقيم الحديث عن إمكان انتقال ديمقراطي من داخل هذا النسق المغلق؟ نسق سلطوي يرى في الانتقال الديمقراطي تهديدا لمصالح المتحكمين في القرار والثروة من جهة، ومن جهة أخرى، لا يرى أن ثمة ما يدفعه لتقديم تنازلات لصالح القوى التي من مصلحتها الدمقرطة.. في الأسبوع المقبل، حديث عن الخيارات والممكن بالنسبة إلى الحقل المضاد للسلطوية..