لماذا لم ننجح في تحقيق الانتقال الكامل نحو الديمقراطية، خلال العشرين سنة التي مرت على حكم الملك محمد السادس؟ لقد تجاوزت «مدة الإنجاز» كل التوقعات، وعرف ورش الانتقال تعثرات كثيرة، كانت توحي، أحيانا، بأننا سنعود إلى الدرجة الصفر. الجواب، في كل الأحوال، لن يخرج عن أن الأطراف الموكل إليها أمر تحقيق هذا الانتقال، أي الدولة والأحزاب السياسية، بالأساس، غير جاهزة لذلك. يمكن، أيضا، استحضار عدم توافر وجاهزية شروط وبنيات أخرى لنجاح الانتقال الكامل إلى الديمقراطية، لكن، دعنا نركز على الدولة والأحزاب. الدولة، بطبيعتها محافظة. لكن، يمكنها أن تنخرط في أي مبادرة إصلاحية، طالما كانت هناك إرادة ضاغطة من المجتمع أو الأحزاب. وإذا كانت الاحتجاجات القطاعية والمناطقية المطردة، إضافة إلى حملة المقاطعة الشعبية الكبيرة وغير المسبوقة في شكلها وأثرها، تعكس رغبة شعبية في إقرار عدالة اجتماعية ومجالية، وترشح بشعارات ورسائل سياسية، أفقها هو الانتقال نحو الديمقراطية، فهل الأحزاب جاهزة للانتقال؟ باستثناء الأحزاب الإسلامية، الموجودة أو غير الموجودة في المؤسسات، والتي لا يتجاوز سقف جاهزيتها القدرة على خوض الانتخابات والفوز بها، فإن الأحزاب الإدارية لم تخلق للانتقال الديمقراطي، والأحزاب الوطنية فقدت بريقها وجماهيريتها بفعل أخطائها القاتلة، التي منها عدم قدرتها على استيعاب الأصوات الدينامية والمبدعة داخلها؛ فالاتحاد الاشتراكي، مثلا، لو تطور بشكل طبيعي، لكان محمد الساسي هو كاتبه الأول بعد عبد الرحمان اليوسفي، بالنظر إلى النضج والحضور المتميز اللذين طبعا الشبيبة الاتحادية وتيار الوفاء للديمقراطية. أيضا هذه الأحزاب غير جاهزة للانتقال الديمقراطي بسبب فقدانها استقلالية قرارها الداخلي، والذي يمكن أن نستدل عليه، بشكل واضح وفاضح، بالطريقة التي استوزر بها إدريس لشكر في 2010، دون علم قيادة الحزب. أما أحزاب فدرالية اليسار، مضاف إليها النهج الديمقراطي، فلا شروطها الذاتية ولا الشروط الموضوعية –غير الموضوعية- لممارسة العمل السياسي في المؤسسات، تسمح لها، حاليا، بأن تتحول إلى قوة سياسية متوسطة أو كبيرة. إذن، الأحزاب السياسية الموجودة في المؤسسات، عموما، أصبحت لا تؤطر الشارع، وباتت تعيق رغبته في التغيير والانتقال نحو الديمقراطية. كما أن عدم جاهزيتها للانتقال الديمقراطي يقوي محافظة الدولة، ويبرر تمديد خيار الملكية التنفيذية. وهنا لا نصبح أمام تدخل الدولة في الأحزاب، كما هو دارج، بل أمام تداخل الدولة مع الأحزاب. في حوار جمعني قبل سنوات بشاب متميز، كان عضوا بالمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، حول تدخل الدولة في الأحزاب، وجدت سفيان خيرات يقول لي إن ما يعرفه المغرب ليس تدخلا في الأحزاب، وإنما هو تداخل بين الدولة والأحزاب. كان الغرض من هذا الجواب، حينها، هو الدفاع عن استقلالية قرار الاتحاد. وكان يبدو، على الأقل بالنسبة إلي، نوعا من الهروب الذكي من اللازمة التي كان يرددها كثير من قادة الحزب، وعلى رأسهم الراحل أحمد الزايدي، حتى وهو يرأس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، وهي أن الاتحاد الاشتراكي لم يعد مستقلا في قراره الحزبي. لكن، بعد مدة على هذا الجواب، اهتديت، فعلا، إلى أن العلاقة بين الدولة والأحزاب المغربية قائمة على نوع من التداخل؛ فالحزب الذي يقول أمينه العام: «برنامجي هو برنامج جلالة الملك» (عباس الفاسي)، والحزب الذي يتدخل كاتبه الأول لثني المؤسسة الملكية عن الإقدام على قرار تاريخي، مثل التخلي عن «بوسة اليد» (عبد الرحمان اليوسفي)، والحزب الذي يقول أمينه العام: «إذا كان المغاربة يبحثون عن رئيس حكومة يصطدم بملكهم، بسبب الصلاحيات وغيرها، فليبحثوا عن شخص آخر، فأنا لا أصلح لهم» (عبد الإله بنكيران)، والحزب الذي يأتي رئيسه ليقول لنا إن الحكومة لا دور لها؛ «صاحب الجلالة هو الذي أعطى توجيهاته لوضع السجل الاجتماعي، وجلالة الملك هو الذي أعطى توجيهاته للاهتمام بالفئات الهشة، وهو الذي أعطى تعليماته من أجل إخراج برنامج راميد، وهو مؤسس صندوق التماسك الاجتماعي الذي يدعم الأرامل، وهو من وضع مخطط المغرب الأخضر، وحل مشاكل الأراضي السلالية، وأخرج التغطية الصحية للصيادين» (عزيز أخنوش)، والحزب الذي يقبل إفراغ صناديق الاقتراع من أي إرادة شعبية، ويدخل حكومة إدريس جطو في 2002 (الاتحاد الاشتراكي)، والحزب الذي يقبل تشكيل حكومة العثماني حتى بعد انتخاب الحبيب المالكي رئيسا لمجلس النواب، ضد إرادته، شهرين قبل تشكيل الحكومة (العدالة والتنمية)… هو حزب/أحزاب تبدأ بقبول التدخل في قراراتها الحزبية، والتنازل عن صلاحيات أعضائها الموجودين في المؤسسات الدستورية، وتنتهي بأن تكرس ذلك قاعدة وليس استثناء، إلى درجة يصبح أي صوت، داخلها، يطالب باستقلالية القرار الحزبي، أو ينبه إلى وجود تداخل في الصلاحيات الدستورية بين المؤسسة الملكية ومؤسسة رئيس الحكومة، يُنظر إليه كمن تجاوز كل الخطوط الحمراء. الدولة عندما لا تجد أحزابا تقول لها: «لا»، أو «نعم ولكن»، ثم تفاوضها –ندِّيا- على عرض قوي ومطمئن لها، يمكن أن تتراجع عن كثير من الإصلاحات والهوامش التي انتُزعت في لحظات مفصلية، مثل لحظة مرض الحسن الثاني، والتي زامنت الارتدادات الديمقراطية والحقوقية التي صاحبت انهيار النظام العالمي القديم، أو لحظة 20 فبراير 2011. وهذا أقوى سبب لتأجيل انتقالنا من ديمقراطية هجينة إلى ديمقراطية كاملة، والذي لن يتحقق إلا بوقف تداخل الدولة والأحزاب.