لا يشكل ما سمي بالربيع العربي حالة خاصة من الثورات في موجتها الجديدة، بل يمكن اعتبارها دفع حساب مؤجل لما عرفه العالم بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي، إذ استطاعت الكثير من الأنظمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن تمدد عمرها عدة سنوات، لكنها لم تستطع أن تخفي إضاعتها مشيتها التي كانت تجري على النحو الذي ترغب فيه موسكو. وحدها تونس شكلت حالة خاصة، بما لأنها من الأصل لم تكن محسوبة على المعسكر الشرقي. الثورات التي همت عددا من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية، اتخذت أسماء مختلفة لا تقل جاذبية عن اسم «الربيع العربي». ففي نونبر 2003، اندلعت بجمهورية جورجيا ما سميت ب«الثورة الوردية»، وسميت بالوردية تخليدا لواقعة دخول زعيم المعارضة، ميخائيل ساكاشفيلي، قاعة البرلمان، مقاطعا خطاب الرئيس، إدوارد شيفرنادزة، ملوحا في وجهه بوردة حمراء، مطالبا إياه بالرحيل عن السلطة. وفي نونبر 2004، اندلعت احتجاجات واسعة في أوكرانيا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، وعرفت الثورة الأوكرانية بالثورة البرتقالية بقيادة كل من فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكا، كما عرفت قيرغيزيا ثورة في مارس 2005 سميت «ثورة السوسن» أو «التوليب»، ضد الرئيس عسكر باسييف، وقد حسمت الثورة بانتخاب كرمان بيك بكاييف في يوليوز من السنة نفسها. وفي أبريل 2009، عرفت مولدافيا ما سمي «ثورة العنب» احتجاجا على فوز الشيوعيين بالانتخابات البرلمانية، فجرى تنصيب ميخاي جيمبو رئيسا للبلاد، باعتباره رمزا من رموز ائتلاف التحالف من أجل التكامل الأوروبي. إن كل هذه الثورات لم تنصف الثوار، بل أفرزت نتائج عكسية. ففي جورجيا، تدنت شعبية سكاشفيلي إلى مستويات غير مسبوقة، وعرفت البلاد في عهده الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الرئيس الرمز تراجع عن الكثير من الشعارات التي حملها خلال الثورة، أما في أوكرانيا، فقد انتهت الثورة البرتقالية، كما يعرف الجميع، بفضائح كبيرة، منها قضايا فساد مالي واستغلال النفوذ، بل إن أيقونة الثورة، يوليا تيموشينكا، التي شغلت منصب رئيسة للوزراء، انتهت معتقلة في سجون كييف، كما أن الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2010، أعادت الرئيس المطاح به، فيكتور يانكوفيتش، في سابقة من نوعها بالنسبة إلى الثورات في العالم، فيما منيت المعارضة البرتقالية بهزيمة نكراء. وفي قيرغيزيا، انتهت الثورة بثورة أخرى سميت «ثورة الوقود»، نسبة إلى قرار الحكومة القيرغيزية رفع أسعار الوقود في وقت وصلت فيه البطالة إلى نسبة 40 في المائة. أما في مولدافيا، فبقدر ارتماء الرئيس جيمبو في أحضان الاتحاد الأوروبي، تصاعدت موجة من الاحتجاجات قادها الشيوعيون في شوارع العاصمة كيشينوف. وفي منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لم تكن الصورة أحسن حالا، فبعد ثلاث سنوات من الرومانسية الثورية في ساحات تونس والقاهرة وصنعاء وطرابلس ودمشق، وبعد رحيل كل من زين العابدين بنعلي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح والعقيد معمر القذافي، دقت ساعة الحقيقة لتكشف واقعا صعبا، ففي وقت نجحت فيه تونس، بعد صعوبات كبيرة، عبر نخبها السياسية، في إيجاد حلول توافقية لتدبير المرحلة الانتقالية، ولو تطلب تحقيق ذلك الاستنجاد بجيل الحبيب بورقيبة، فإن مصر، بعد الثورة/الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، دخلت في نفق لا يبدو أن له مخرجا، بل إن الناس بدؤوا يترحمون على زمن مبارك ومرسي. أما في ليبيا، فقد تحولت الميليشيات المسلحة إلى اللاعب رقم واحد على الساحة، مستغلة الغياب الكلي لمفهوم الدولة على امتداد 40 سنة من حكم العقيد القذافي، بل إن وحدة ليبيا الترابية أصبحت مهددة بشكل جدي، وهو ما يحمل مخاطر كبيرة على منطقة الساحل والصحراء برمتها، بفعل الصراعات الدولية المباشرة وغير المباشرة. أما في اليمن وسوريا، فإن الحرب والتدخل الخارجي أعادا عقارب الساعة بهما إلى الوراء، وتحولا إلى جحيم حقيقي… في الموجة الجديدة ل«الربيع العربي»، جرفت مسيرات الشعبين السوداني والجزائري كلا من عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، لكن بنية الدولة العميقة في كل من الخرطوم والجزائر مازالت تقاوم التغيير، وتلعب على تناقضات الشارع والمعارضة، مع بقاء الأوضاع بهما مفتوحة على جميع الاحتمالات.