لم أكن أعتزم النقاش حول الملكية، ولكن أثارني تعليق خاص للأستاذ النويضي ثمّن فيه مقالي السابق، لكنه رأى أنيأقترب من الساسي وأبتعد عن بنكيران. والحقيقة أن تعليقه حفزني على التأمل، فليس هدفي الابتعاد عن الساسي ولا الاقتراب من بنكيران، وإنما القصدبناء تصور يمتلك الحجج التأسيسية وقابل للتحقق، وبأقل كلفة. استشكلت مضامين حوار مستشاري الملك عزيمان والمنوني، فالرأي العام لم يعرف، على الأقل في الآونة الأخيرة،نقاشا حيويا حول الملكية البرلمانية، ولم يرفع مطلب الاقتداء بالملكية الإسبانية ولا الهولندية، لكن الصياغة الحِجاجية رجحت لديّ أن المقصود، ربما، الرد على جهة خارجية. لا يتبرر النقاش إذن بخرجة مستشاري الملك، ولا بتصريحوزير العدل الذي علق الشماعة على «محافظة المجتمع»، واتهم الإسلاميين بإعاقة مهمة تأهيل المجتمع لمواكبة تطورالملكية البرلمانية، إنما يتبرر بمؤشرات تخص الوضع المؤسساتي وانعكاساته على المسار السياسي، فقد لوحظطوال العقدين السابقين تردد كبير في المسار الديمقراطي. البعض تخذله مؤشرات الانفتاح السياسي، فينظر إلى تعددية المشهد السياسي والثقافي واللغوي والفنيوالإعلامي، ويشاهد بعض صور حرية التعبير، فتختلط عليه هذه الصور بمؤشرات الدمقرطة، فلا يدرك أن مؤشراتالانفتاح السياسي لا يمكن أن تكون بديلا عن قواعد الديمقراطية. لم يخطئ السيد عزيمان التوصيف عندما أكد «أن النظام لم يتغير، وأنه تأقلم مع التحولات»، فالملكية لاتزال تمتلكصلاحيات واسعة، وأخرى أوسع، تستمدها من واقع الديناميات السياسية أو العلاقات المؤسسية. خلافي مع الأخوين النويضي والساسي، أنهما يحملان تصورا مثاليا للملكية، يعتقدان أنه بالإمكان المآل إليه، فيحين أن الصفة التنفيذية للملكية، متجذرة في التاريخ والسوسيولوجيا والوجدان الشعبي، وتستمد من شرعية دينيةيصعب هزمها داخليا. ينتقدنا البعض، ويزعم أن لهذا التوصيف وظيفة إيديولوجية محافظة، لكنه لا يبصر المنطقة التي تفصل الملكيةالبرلمانية عن الملكية التنفيذية، ويتبلور فيها تصور ثالث واقعي، يمكنه تجاوز إكراهات الدين وتراكمات التاريخواعتبارات السوسيولوجيا وسيكولوجية الجماهير. العطب الذي يفسر الوضع المؤسساتي المختل، وتوسع مناطق اللامحاسبة، هو أن العلائق المؤسساتية تنضبطلنصوص دستورية يكتنفها غموض كثيف ينشأ عنه توسع هامش الدينامية السياسية، فتطغى المؤسسات علىبعضها، فيحاسب الذي لم يأمر، ويأمر الذي لا يحاسب. لقد أبدع دستور 2011 حين اتجه نحو تحديد بعضالوظائف الحصرية للملك، لكن في الجهة المقابلة، لم يقع شيء من ذلك بالنسبة إلى المؤسسات الأخرى، فباستثناءمعيار الفصل بين المجال الاستراتيجي وغير الاستراتيجي، الذي بموجبه تفرز صلاحيات المجلس الوزاري عنصلاحيات المجلس الحكومي، لم يتوسع البعد التمييزي الوظيفي في الدستور، فأضحت الملكية تدخل تفاصيلالسياسات الحكومية، وأضحت الحكومة غير قادرة على التصرف من غير تعليمات ملكية. الملكية تتمتع بقوة دفع تاريخية مؤثرة، والتجربة الديمقراطية الناشئة أو المترددة في المغرب تحتاج إلى تثوير ثقافيمجتمعي من تحت وفوق، وليس من العقل ولا الحكمة التضحية بأي رصيد لجهة بناء رصيد آخر غير مضمون الفعاليةفي قوة دفعه. لكن في المقابل، ثمة حاجة إلى التفكير العميق في تطوير الملكية، بالحفاظ على قوة دفعها، وفي الآنعينه، تقوية التوجه نحو الديمقراطية، وما يستلزمه ذلك من جعل الإرادة الشعبية ذات انعكاس فعلي على السياسة. النخب السياسية معنية بشكل كبير بالتفكير في صيغة تحفظ الرصيدين، كما أن ثمة حاجة إلى إنهاء حالة الشكالمتبادلة وتجاوز معادلة (السياسة تمر من جسر بناء الثقة)، فقد تداولت نخب كثيرة، ولم تبن الثقة، وسقطت التجارب،وبقيت الملكية، ولم يتقدم المغرب في مسار الدمقرطة. النخب معنية بالتفكير في توسيع المفهوم التمييزي الضابطللعلاقة بين المؤسسات، ومعنية بالتفكير في صيغة تحفظ لوازم من الصفة التنفيذية للملكية لاستثمارها كقوة دفعضرورية لإنجاز أي تقدم في البلاد، ومعنية في الآن عينه، بالتفكير في صياغات دستورية مغلقة تحمي الإرادةالشعبية من أي التفات عليها، وذلك حتى تتحرر الملكية من رهانات النخب المهيمنة، ويبقى تشكيل الحكومة وتعديلهاأمرا مرتبطا بالإرادة الناخبة وثقلها. الأفق الممكن لتطور الملكية، أن يتم المحافظة على لوازم من صفتها التنفيذية، اعتبارا لوظيفتها الجامعة والتحكيمية،وما يفرضه ذلك من مؤسسات ومجالات ترعاها لتقوية هذه الوظائف، وأن يتم الاتجاه نحو فتح السياسة، والرهان علىالإرادة الشعبية في إنتاج النخب وتحميلها مسؤولية بلورة السياسات العمومية وتنفيذها. بين الملكية التنفيذية والملكية البرلمانية، ثمة صيغة ثالثة آمنة لتطوير الملكية، تخرج البلاد من دائرة التردد، وتضمنسلاسة الانتقال إلى الديمقراطية، وتؤسس لاستثنائية حقيقية.