تحلّ علينا هذا الأسبوع الذكرى ال56 لما بات يعرف، منذ منتصف غشت 1956، ب«ثورة الملك والشعب»، في إشارة إلى الانتفاضة الشعبية العارمة التي اندلعت بعد إقدام سلطات الاستعمار الفرنسي على نفي السلطان محمد الخامس وأسرته، وذلك يوم 20 غشت 1953. فغداة عودة الملك المنفي وإعلان الاستقلال رسميا، كان من بين أول ما بادر إليه وفد ممثل للمجلس الوطني للمقاومة، وهو يزور محمد الخامس في مقامه الصيفي قرب شاطئ الوليدية، هو الدعوة إلى إحياء ذكرى ذلك اليوم باعتباره «يوم المقاومة والوفاء»، فكان رأي الملك أن يكون ذلك لكن تحت اسم «ثورة الملك والشعب». هذه الذكرى بالذات، من بين جميع الأعياد الوطنية التي نحييها خلال السنة، تتطلّب وقفة دائمة ومتكررة، لأن ما حدث يوم 20 غشت 1953 وأثمر للمغاربة الاستقرار والوحدة والتلاحم، هو ما ظل ينقصهم منذ انحرفت الأوضاع إلى صراع مفتعل بين القصر والحركة الوطنية بعد سنوات قليلة من الاستقلال. وإذا كنا اليوم مقبلين، أو آملين على الأقل، على خطوة إصلاحية شاملة تعيد للدولة ومؤسساتها فعاليتها الاقتصادية والتنموية، فإن ذكرى 20 غشت مواتية للتذكير بأهمية الشق السياسي في أي محاولة إصلاحية، بدل اجترار وصفات التقنوقراط التي لا تؤكل إلا باردة. الأعياد والذكريات الوطنية التي تحتفي بها الأمم تلعب دور المرجع، وكتاب التاريخ المفتوح أمام أعيننا اليوم، نحن المغاربة، يخبرنا بأن الوصفة الناجحة التي جُرّبت ونجحت هي التي تلتحم فيها المؤسسة الملكية بالشعب ونخبه الحقيقية، أما اللوبيات المصلحية ومراكز النفوذ غير المنضبطة للقانون والمؤسسات، فليست حليفا استراتيجيا للملكية، وإن حاولت في لحظة ما الظهور بمظهر الحليف والحامي والضامن للتوازن داخل الدولة والاستقرار في المجتمع. فإذا كانت كوكبة من الأعيان والباشاوات، يتقدّمهم الأخوان الكلاوي، هم الذين وقفوا وراء خطوة عزل السلطان مولاي عبد العزيز لتقصيره في أداء مسؤولياته السيادية، وبايعوا بدلا منه مولاي حفيظ تلك البيعة المشروطة الشهيرة التي يحتفي بها التاريخ إلى اليوم، فإن بعض هؤلاء هم من تزعّم مؤامرة عزل السلطان محمد الخامس وتنصيب قريبه محمد بن عرفة، ليس بخلفية إصلاحية، بل خدمة لأصدقائهم الفرنسيين. ولمن نسي، لا بأس من التذكير بأن قرار نفي محمد الخامس وأسرته، تحت تهديد الأسلحة الرشاشة والدبابات، اتخذ بعدما ذهب السلطان في مواقفه الداعمة للوطنيين إلى درجة رفض توقيع مراسيم تدخل المعمّرين دائرة الحكم، وأن فئة الأعيان والباشاوات النافذين دعمت المخطط بكل قوة. إن مثل هذه القوى لا تدعم الملكية أو تتحالف معها إلا بمقدار ما يخدم ذلك مصالحها الضيقة، ويمكنها من الاستحواذ على مصادر الريع ومراكمة الثروات السهلة، وتوسيع الشبكات العائلية والمصلحية المرتبطة بها، وفي اللحظة التي تصبح فيها الملكية عائقا أمام هذه الأهداف، فإن هؤلاء هم أول من يبادر إلى التخطيط للإطاحة بالملك وعزله وتنصيب غيره، بل ويطلبون دعم قوى الخارج وتزكيتها مثل هذه الأفكار. في المقابل، يكشف نصف قرن الذي قضاه المغرب تحت النفوذ المباشر للاستعمار، أن القوى الوطنية الحية والحقيقية هي الحليف الحقيقي والوحيد للملكية، وأنها هي التي تمد هذه المؤسسة بالدعم الشعبي ومصادر تجديد الشرعية، بل يمكنها في لحظات الحسم أن تفرض على خصوم الوطن إعادة الملك الشرعي، لأنه يجسّد الشرعية والإرادة الشعبية والاختيار الوطني. إن إضعاف القوى الوطنية، والحؤول بينها وبين السلطات الحقيقية، يضعف، في نهاية الأمر، الملكية نفسها، ولا يؤدي في النهاية سوى إلى تحالف القوى المهيمنة من خارج الشرعية مع أخرى خارجية، وهو ما يحوّل الشؤون السيادية والحيوية للمغرب إلى لعبة، وهو ما حدث مع السلطان عبد العزيز الذي تفككت سلطته بين فكي كماشة القياد والباشاوات المتنطعين والقوى الاستعمارية المتسللة إلى خيرات البلاد. وهو ما سيتكرر مع خليفتيه مولاي عبد الحفيظ ومولاي يوسف. إن ما صنع قوة محمد الخامس، ورفعه إلى مرتبة الظهور في القمر، والعودة معززا مكرما إلى عرشه بعد سنتين من المنفى، هو أنه حافظ على روابط الصلة المتينة مع الشعب ونخبه الحقيقية، لا المسلّطة على الرقاب. لقد رفض محمد الخامس أن يوقع على مراسيم الإقامة العامة التي كانت تجرّد «الأهالي»، أي عموم المغاربة، من حقوقهم وثرواتهم ومصادر نموهم، وتمنحها للمعمّرين المستوطنين وحلفائهم وخدامهم المغاربة. وهذه المساومة لم تقتصر على تلك اللحظة التاريخية، بل إن استعراضا سريعا لتاريخ المغرب منذ ذلك الحين يكشف تكرّر هذه المطالب بأشكال وصيغ مختلفة، متخفية أحيانا وسافرة في أخرى، لكنها اللعبة نفسها والمعركة نفسها، بين خيار انبثاق مشروع وطني وآخر يحرس مصالح النافذين وحلفائهم الأجانب. يكاد المختصون يجمعون على أن المغرب عرف لحظات استثنائية كاد ينتقل خلالها إلى نظام سياسي يجمع بين الشرعية التاريخية والدينية للملكية وبين الديمقراطية. وأهم تلك اللحظات هي ما يعرف بالبيعة الحفيظية، حين جرى للمرة الأولى تنصيب السلطان على أساس تعاقد وشروط متبادلة بينه وبين «أولي الأمر»، واللحظة الثانية كانت مع اصطفاف محمد الخامس إلى جانب الحركة الوطنية في سنوات الاستقلال الأولى التي كادت تحقق حلم الملكية البرلمانية. وإذا كان البعض يضيف لحظة الربيع العربي باعتبارها شهدت قوسا سرعان ما جرى إغلاقه، فإنني شخصيا لا أريد أن أجزم بذلك، وأعتقد أن الفرصة مازالت سانحة ليعود محمد الخامس من جديد. فما انتفض المغاربة من أجله يوم 20 غشت 1953، وتحقّق لهم يوم 16 نونبر 1955 بعودة سلطانهم الشرعي، أكبر من مجرّد وفاء وارتباط بشخص أخلص للأمانة. إن ما انتظره المغاربة وتطلّعوا إليه ليلا في قرص القمر، هو انتصار إرادتهم واستعادة حريتهم، والالتحام المباشر بملك يشاطرهم صادقا حلم النهوض والانعتاق بمعانيه السياسية والاقتصادية والحضارية. وإذا كان الكثير من الباحثين قد اعتبروا الملك محمد السادس لحظة توليه العرش امتدادا لأسلوب وشخصية جده، فإن الوقت مازال يسمح بعودة ثانية لمحمد الخامس، تحرّر إرادة المغاربة، وتجسّدها في سلطات تشريعية وتنفيذية تحكم إلى جانب الملك.