بالنسبة للمثقف الأكاديمي فمن الفاعلية أن يكون مفكرا سياسيا، بدلا من أن يخوض في ممارسة السياسة. يعتقد البعض بأن مهام المستشار الثقافي في السفارة مهام بروتوكولية، ما مدى صحة هذا الاعتقاد؟ ما يشير إليه سؤالك يردده كثير من الناس. لماذا؟ لأن الغموض هو الأقوى حضورا وشيوعا في العبارات المستعملة في الثقافة الإدارية والإعلامية المغربية؛ إما بسب غياب أو تغييب التعريفات اللازمة إعلاميا، ومعجميا كذلك، لجملة من المصطلحات التي نكررها في تعابيرنا اليومية. وإما أن السبب يكمن في عدم ضبط المصطلح من قبل بعض المتنفذين إداريا وإعلاميا قصدا، لغرض يخدمهم ويخدم سلطانهم على الناس. وقد يكون ناتجا عن عدم التخلص من عادة استخدام عبارات فضفاضة للتعبير عن قضايا ومسائل عامة، أو تلك التي لها علاقة باختصاصات معينة، بتبرير أن الثقافة المغربية لم تصل بعد إلى درجة الدقة في تعابيرها. فمثلا إذا سألت أي شخص مسؤول أو غير مسؤول عن كثير من المصطلحات المتداولة أو المستعملة في منطوقه، أو في كتابات إعلامية، أو في تقارير إدارية، فإنك قد لا تخرج من كلامه أو تقريره بمفهوم واضح الدلالة عن المصطلحات التي استعملها ويستعملها. وكذلك الشأن بالنسبة لمهام المستشار الثقافي في السفارة مثلا. وأتذكر بالمناسبة أنه حينما زارني أحد الزملاء الجامعيين، ولاحظ كثافة العمل الذي أقوم به طيلة فترة الدوام، وما بعد الدوام أحيانا كثيرة؛ علق قائلا:”كم كان حكمي في غير محله على وظيفة المستشار الثقافي في السفارة، فقد كنت أتصور أن عمله يقتصر على مطالعة الصحف وبعض الكتب، وتقديم استشارات شفوية أو كتابية للسفير، حين يكون بحاجة إليها في موضوعات معينة، ولم أكن أتصور أبدا هذا العمل الكبير الذي يقوم به المستشار الثقافي والمهام التي يُكلف بها”. أما أحدهم فكان يعتبر عمل المستشار الثقافي تجسسا على دولة الإقامة، مثله كمثل جميع الدبلوماسيين. طيب، هل بإمكانك أن توضح المهام التي كنت تقوم بها بصفتك مستشارا ثقافيا؟ هناك مهام فكرية وثقافية وأخرى إدارية. ومن بين المهام الثقافية للمستشار الثقافي هي: + القيام بتقديم وقائع وملابسات عن الوضع الثقافي العام، وعن منظومة التربية الوطنية والتكوين في بلد الإقامة للسفير. ويمكن أن يُكلف المستشار بإعداد تقارير بشأنها توجه إلى الإدارة المركزية لكل غاية مفيدة. كما يتم تمكين السفير بالخلاصات الفكرية السائدة في المغرب، التي يطلبها من المستشار، قصد الاستئناس بها أثناء لقاءاته بالمسؤولين أو رجال الثقافة والفكر والعلم. + تمثيل السفارة، أو النيابة عن السفير، في مختلف الأنشطة الفكرية والفنية التي تتلقى السفارة الدعوات بحضورها، وهي كثيرة جدا، سواء من قبل جهات تابعة لبلد الإقامة، أو من قبل الهيئات الثقافية الدولية التي لها فروع هناك، أو من جانب سفارات البلدان الأخرى. إضافة إلى حضور الندوات الفكرية، أو المحاضرات التي يلقيها المفكرون والعلماء. + القيام بربط الاتصال مع الفاعلين الثقافيين والباحثين الجامعيين للاطلاع على مسار بلد الإقامة في التنمية الثقافية والعلمية، ورصد التيارات الثقافية فيه، وتوجيه مذكرات بشأنها إلى الخارجية المغربية إذا رأى السفير أهميتها في إفادة المعنيين بالتعاون الثقافي بين المغرب وبلد الإقامة. + تعريف المهتمين من الباحثين والإعلاميين بالتحولات الثقافية الجارية في المغرب، ونقاط قوتها واجتهاداتها، والمجالات التي قد تؤثر فيها، والعوائق التي تصادفها أو تصدمها. + إعداد تقارير ثقافية عما يشهده بلد الإقامة من دينامية فكرية وفنية والأهداف المعقودة على تحقيقها، أو العثرات التي قد تحول دون ذلك وأسبابها. إضافة إلى التقرير الثقافي السنوي العام في نهاية كل سنة شمسية. + المشاركة في معارض الكتب واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية التي يكون من الأليق ألاّ يغيب المغرب عنها. وكان السفير عبد القادر بن سليمان يشجع مستشاره الثقافي على المشاركة، بل يحث عليها. أما بعض السفراء فكانوا يحتاجون إلى ترخيص من الإدارة المركزية في وزارة الخارجية والتعاون. + استقبال الباحثين المساهمين أو المشاركين في الملتقيات العلمية والفكرية، المدعوين من قبل الجامعات أو الهيئات الثقافية والعلمية في بلد الإقامة. وغالبا ما كان السفير عبد القادر بن سليمان يحضر بنفسه ليسلم عليهم، أو يقوم باستقبالهم في مقر إقامته. وأتذكر أنه حين انتهت مأموريتي والتحقت بالجامعة، كان الأساتذة الذين سبق لهم المشاركة في ندوة ما حيث كنت مستشارا ثقافيا يشيدون بحسن استقبالهم. الأمر الذي لم تقم به سفارات المغرب في بلدان أخري، حسب أقوالهم. وكنت أعلق قائلا: الأمر يتعلق بخصال السفير الثقافية والأخلاقية، وبدرجة تقديره للعلم وأهله، وبمستوى مساعديه وجودة خدمتهم. وإن كان البعض يعتبر ذلك تجسسا عليهم وعلى أفكارهم. وماذا عن المهام الإدارية؟ يمكن تلخيصها في مهمتين: – التكفل الشامل بملف التبادل الطلابي بين البلدين، في حالة وجوده، وبملف الطلبة من أبناء الجالية المقيمة في بلد الإقامة. ويمكن أن يكون هناك مساعد أو مساعدون لمتابعة هذا الملف القوي. – متابعة كل ما يتعلق بملف التعاون الخاص بالتعليم وبالقضايا الثقافية في جميع مراحله: إعدادا، واستقبالا، تنفيذا وتقييما، وتطويرا. ألا ترى أن هذه المهام تجعل عمل المستشار الثقافي مضنيا؟ كل هذه المهام الكبيرة والصعبة تكون هينة عندما تشعر بأنك تُسهم بجهدك في خدمة بلدك، وتطور إيجابيا علاقتها بغيرها من البلدان. خاصة إذا كان رئيسك في العمل من طراز السفير عبد القادر بنسليمان الذي جمعتني به روابط الاعتزاز بالعمل الذي نشترك في إنجازه. ولذلك حين أصبح سفيرا في تونس سنة 1996 طلب مني الالتحاق به، وفعلت. وقد قال لي ذات يوم في تونس:”أنا لست مثقفا بالمفهوم الأكاديمي، ولكننا ننجز سويا عملا ثقافيا قد يشرف وطننا”؛ فعلقت على قوله: في رأيي أن الأهم بالنسبة لرجل الإدارة أو السياسة، ومنها مأمورية السفير، هو أن يدرك أبعاد الثقافة ونجاعتها في العمل الدبلوماسي، وفي خدمة التنمية الإنسانية. سيكون أهم بكثير من أن يكون مثقفا أكاديميا. أما بالنسبة للمثقف الأكاديمي فمن الفاعلية أن يكون مفكرا سياسيا، بدلا من أن يخوض في ممارسة السياسة. بالنظر إلى ما تقدم، يمكن القول: إن أهمية المستشار الثقافي في السفارات، حسب نظري، لا تقل عن أهمية المستشار السياسي، أو المستشار الاقتصادي، أو المستشار الأمني، أو المستشار العسكري. فكل واحد من هؤلاء يُسهم، تحت سقف السفارة ورعاية السفير، في تطوير العلاقة بين بلده وبلد الإقامة، ويخدم مصالح بلده دون الإضرار بمصالح البلد الآخر. ومن ثمة تكون مؤهلات المستشارين المعنيين المهنية واستعداداتهم العملية ضرورية لنجاح مأموريتهم. خاصة إذا كانت شخصية السفير بمثابة قطب رحى السفارة. ومن المعروف أن بعض المستشارين الثقافيين في سفارات الدول الكبرى يوقعون اتفاقيات مع وزراء الثقافة في دول أخرى، كما جرى مثلا بين المستشار الثقافي في السفارة الفرنسية بالرباط مع وزير الثقافة المغربي في حكومة التوافق، وهلمّ جرا.