إذا نظرت بمرآة عاكسة لزمن عملك في السفارة بالجزائر، فماذا تسترجع تلك المرآة إجمالا؟ تسترجع صورا عديدة منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي، وتسترجع معلومات بعضها يدخل في خانة “حديث المجالس أمانات”، وبعضها لا أدري أن كان يدخل في المباح نشره، أو الممنوع. لأن القوانين التي تميز بين المباح والممنوع قليلة عندنا. وتبقى كلمة “ممنوع” أو “حرام” من أهم العبارات التي يسمعها المغربي يوميا وفي كل مكان، بمناسبة وبدون مناسبة. وما هو موجود من القوانين تؤَوَّل نصوصها حسب الظرفيات المتاحة؛ أو قد يتم التأويل بإيعاز من أولياء النعم. وبسبب ذلك يلجأ الباحثون إلى مصادر أجنبية، بما في ذلك ما يتعلق بالمجال الدبلوماسي. ونعلم من زاوية أخرى أن معلومات هامة وعديدة تدفن مع صاحبها في قبره؛ لأن حتى كتابة المذكرات يحتاج إلى كثير من الجرأة والنزاهة الأخلاقية. ولذلك يحرم المجتمع من معرفة ماذا حدث برؤى متعددة، وتحرم الأجيال من تعميق إيجابيات أبائه وأجداده، ومن تجنب إعادة إنتاج سلبيات الماضي. وأعتقد بأن كثيرا من المغاربة القادرين على كتابة مذكراتهم لم يُطلّقوا بعد ثقافة التحفظ، التي تطمئنهم على الدخول إلى المغرب والخروج منه بدون تعقيدات. طيب، ما أهمية الدبلوماسية الثقافية المغربية في نظرك؟ أشرت في حلقة سابقة إلى مكانة بعض المثقفين المغاربة في الجزائر، وإلى أن تلك المكانة كان يجب أن تُطور. لماذا؟ لأن الثقافة هي القوة الناعمة لكل مجتمع أو دولة لكي تسجل حضورها الفاعل لدى الآخر، وحماية مصالحها غير المادية عنده. ونعلم على سبيل المثال أن حضور مصر في المغرب وفي غير المغرب كان قويا يوم كانت مصر قبلة فكرية وثقافية لكثير من المغاربة. وتهاوى صيتها بعد أن اضمحلت أو تقهقرت قوتها الناعمة، ففقدت مكانتها العربية حينما لم تعد فيه قبلة فكرية للعالم العربي. سألني السفير ذات مرة: هل لدينا مقومات ثقافية تؤهلنا أن نقوم بدبلوماسية ثقافية فاعلة، أليس لدينا علماء ومفكرون؟ فأجبته: في المغرب علماء ومفكرون، لكن بدون علم وبدون فكر، فاستغرب جوابي، فأوضحت له أن وضع المغرب في هذا الشأن كوضع مصنع ينتج سلعا عالية الجودة. غير أن تلك السلع ينقصها التغليف الجميل والترويج الإشهاري الجيد. ونتيجة لذلك لا يسمع بتلك السلع الجيدة إلا آحاد الناس. فالعلم أو الفكر، إذن، كأي بضاعة يجب أن تقدم للناس بما تستحق من التعريف والترويج؛ وإلا سيصبح وجودها وعدمها سيان. والمغرب، في خضم أولويات نظامه السياسي عقب الاستقلال لم يحافظ حتى على مكانة قوته الناعمة في إفريقيا التي لخصها لي سفير إفريقي في عبارة “كانت أرواحنا تسكن لديكم”. ويحضرني بالمناسبة ما يحكى عن الرئيس الفرنسي الأسبق، شارل دوغول Charles de Gaulle ، الذي استقلت الجزائر عن فرنسا في عهده، أنه استقبل وفدا من النخب الاقتصادية والسياسية الفرنسية بطلب منهم. وكان موضوع الاستقبال الأساس هو أن يعين الرئيس في سفارة فرنسابالجزائر المستقلة من يعمل بكفاءة عالية على حماية المصالح الفرنسية. فكان جواب دوغول: لقد تم ذلك فعلا وسلفا. اندهش الوفد وتساءل كيف يحدث هذا دون إعلام الشعب الفرنسي، وفرنسا دولة ديمقراطية! فأجاب: بأن الأمر تجاوزه هو كذلك؛ لأنه حدث منذ زمن بعيد؛ زمن فرنسا الأنوار، وقيمها الثقافية، ولغتها المتغلغلة إلى أعماق النخب المحلية، وتأثير مرجعيتها القانونية ومبادئ حقوق الإنسان في نظام الدولة الوليدة في الجزائر. ولم يخف دوغول رؤيته لدور القوة الناعمة عن الشعب الفرنسي، فقد عبر عليها في الفصل الأول من الجزء الرابع من مذكراته التي تحمل عنوان “الأمل”،التي تشمل رؤية ومكانة فرنسا عند نخب شعوب مستعمراتها السابقة. وأستخلص مما تقدم، أنه إذا كانت القوة المادية تتيح امتلاك الأرض بالاحتلال والاستعمار، فإن القوة الناعمة تضمن امتلاك مشاعر الناس برفق، ولمدة أدوم. هل كانت لديك رؤية ثقافية تتمنى أن تتحقق في كل من الجزائر وتونس؟ يمكن أن يطرح السؤال بالصيغة التالية: هل كان لدى المغرب استراتيجية ثقافية مستقلة وفاعلة؟ من المعلوم أن أي خلاف سياسي بين الدولتين كان ينعكس انعكاسا تاما على كل المجالات الأخرى، ومنها المجال الثقافي أساسا، فيمنع تداول المنشورات والمسرحيات والأفلام والأغاني وهلم جرا؛ إلا ما كان يمارس من قبل مكونات مجتمعية بشكل التهريب أو (اتراباندو). نعم شعبيا لم يكن هناك مقاطعة، خاصة في فنون الغناء. وأتذكر أنه في بعض الجلسات مع السفير كان يتم التطرق فيها إلى كيفية تفعيل الدبلوماسية الثقافية بين البلدين، بعد أن تجددت العلاقات ورفع الحظر الذي شلّ التعاون الثقافي. لكن المغادرة المبكرة للسيد بنسليمان إلى المغرب لم تكن لصالح تفعيل مثل هذه الموضوعات. وكيف كانت رؤيتك إلى تفعيل حضور المغرب ثقافيا وبفعالية؟ كانت رؤيتي تتمحور حول تأسيس “مركز ثقافي” حقيقي بالجزائر، تكون له فروع في المدن الجزائرية المهمة. كما يمكن أن تكون هناك معاملة بالمثل من قبل الجزائر إذا أرادت. على أن يكون المركز الثقافي المأمول بمثابة: متحف ثقافي يقدم لزواره ما هو خاص بالمغرب الأقصى وما هو مشترك مع المغرب الأوسط، أي الجزائر، انطلاقا من أهمية البناء المغاربي المشترك في عهد الموحدين مثلا، وإبراز التلاحم الثقافي في زمن المرينيين بين القطرين، على الرغم من الافتراق السياسي الذي حدث بعد الموحدين. ونشر الوثائق التي تبين تضافر العمل الوطني بين الحركات الوطنية في المغرب الكبير. معرض دائم للمنشورات والكتب المغربية المطبوعة في المغرب أو خارجه، وباللغات المتعددة. مع إمكانية قراءة أهم تلك الكتب ومناقشتها من قبل زملاء جزائريين أو غيرهم بحضور أصحابها. ودعوة مفكرين مغاربة وغير مغاربة للإلقاء عروضهم في المركز. معرض دائم للوحات الفنية، والفنون الشعبية، ولكل الفنون المغربية والمغاربية، وللصناعات التقليدية المغربية. إقامة مكتبة في المركز تحتوي على كل ما ينتج في المغرب، الجديد منه والقديم، وتقويته بإنتاج البلدان المغاربية والعربية والعالم، خدمة لرواد المركز الراغبين في المطالعة وتعريفهم بالقيم الثقافية والعلمية المغربية وغير المغربية، وخدمة للبحث والباحثين… إلخ. وهل تحقق هذا التصور الثقافي، كليا أو جزئيا على الأقل؟ إن نقل الفكرة من مرحلة الوجود بالقوة إلى مرحلة الوجود بالفعل يتطلب وجود مدركين لأهميتها وقادرين على إيصالها إلى أصحاب القرار، بعد أن تكون أهدافها قد تبلورت لديهم. وأعتقد بأنه لو بقي السيد عبد القادر بنسليمان سفيرا في الجزائر مدة أطول كان يمكن للفكرة أن تنتقل، ولو بالتدريج، إلى الوجود بالفعل. كنت أطرح الفكرة في بعض اللقاءات غير الرسمية مع من كانت تجمعني معهم بعض المناسبات. وعلى كل حال، لم يكن ذلك من صلب اهتمامات الدبلوماسية المغربية، أو انشغالاتها. وحين تولى علال سيناصر وزارة الثقافة، وهو مثقف وخبير في منظمة اليونيسكو، يعرف بلا شك دور دبلوماسية القوة الناعمة التي أتحدث عنها، طلبت مقابلته، واستقبلني، فعرضت عليه فكرة المشروع بما تسمح به قدرتي على الإيصال، والإيضاح، والتعليل. وبعد أن أنهيت عرضي؛ وقف سيناصر معلنا انتهاء اللقاء دون أن ينبس ببنت شفة. خرجت من مكتبه وأسئلة كثيرة تحاصرني وتطيح بأحلام مغرب القوة الناعمة. ولم أفهم بعض ذلك الموقف إلا بعد حوالي عقدين من الزمن، عندما صرح رئيس الحكومة السابق السيد عبد الإله بنكيران: “ما أنا إلا مجرد رئيس حكومة”.