الموصل، اسم مدينة تاريخية، ستغزوها حجافل تنظيم داعش الإرهابي، لتتحول إلى ساحة حرب دامية على امتداد شهور. وفي غضون الحرب، كان صحافي عراقي، اسمه علي مولا، يوثق مجريات الحرب، لتتحول وثائقه إلى فيلم بعنوان المدينة ذاتها وتوقيع ضابط المخابرات الأمريكي “دانييل غابرييل”. الإرهاب ليس جماعة من المتطرفين، غايتهم قتل الناس، وإنما هو فكرة مؤسسة إيديولوجيا ذات أثر في النفوس والعقول. هذا ما يخلص إليه الصحافي علي مولا من استجوابه أحد مقاتلي تنظيم داعش، وما يخلص إليه أيضا مشاهد الفيلم الوثائقي “الموصل”، بعد أن يشاهد حجم الخراب الذي حل بمدينة الموصل التاريخية، وحجم الخسائر المادية والبشرية الفادحة الناتجة عن الحرب. وفيلم “الموصل”، الذي أنتجه وأخرجه ضابط المخابرات الأمريكي “دانييل غابرييل”، هو فيلم وثائقي يقدم، بالصوت والصورة الحية، ما حل بالناس والوطن العراقي من دمار وخراب، جراء الاختراق الإرهابي لثاني أكبر مدن العراق ولمحافظة نينوى كلها. إذ يعمل علي مولا على توثيق كل تفاصيل الهجوم المضاد الرامي إلى تحرير المدينة من قبضة الداعشيين. يلتقي علي مولا، ومن خلاله المشاهد، مع شخصيات عراقية عديدة تنتمي إلى طوائف العراق المختلفة، لكنها تلتقي في إرادة واحدة، هي تخليص جسد العراق من جرثومة داعش. تتميز هذه الشخصيات بطبائع واعتقادات وسلوكات مختلفة، وعلى الخصوص بتناقضات وتباينات خطيرة، في مقدمتها امرأة شيعية تدعى أم هنادي تتزعم كتيبة من المقاتلين وتدعمها ميليشيا إيرانية وتسعى إلى الانتقام لزوجها الذي قتل على يد داعش، وزعيم سني يلقب نفسه ب”التمساح” يبدو مؤثرا في أهله وجماعة من الناس الخاضعين لسلطته. لكن أكثر هذه الشخصيات انسجاما مع ذاته، هناك محام شاب اسمه علاء عطا يقرر التخلي عن ممارسته مهنته والالتحاق بالجيش العراقي للغرض نفسه. يصور الفيلم لحظات قوية في حرب العراق على داعش، حيث تجري معارك دامية أمام الكاميرا، وتسللات إلى ما وراء خطوط العدو، كما تجري عمليات تحرير وإنقاذ للهاربين من جحيم داعش. إذ كانت أبرز هذه اللحظات المباشرة في هذا الفيلم الوثائقي صورة جندي عراقي يتلقى رصاصة في الرأس، ويفارق الحياة أمام أنظار رفاقه العاجزين عن فعل أي شيء لإنقاذ حياته. تتقدم قوات الجيش والحشد الشعبي العراقي، وتكسب مساحات كبيرة، وتتفوق تدريجيا على العدو، ويأسر أفرادا منه ويقتل آخرين. لكن لا يتم هذا من دون خسائر أو دمار، حيث لا تظهر مدينة الموصل في آخر الفيلم، بنفس مظهرها في بدايته. ولعل أفضل صورة تعبر عن هذه المقارنة هي صورة المسجد النوري الكبير، حيث ألقى زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي خطبته الشهيرة، الذي يبدو مجرد أنقاض متهدمة مع نهاية الفيلم. ومن خلال هذه الشخصيات والأحداث/ اللحظات، يحاول الفيلم أن يستعرض سرديات متقاطعة لمختلف الجماعات العراقية المختلفة التي كانت منخرطة في العمليات العسكرية ضد داعش؛ أي زعماء القبائل السنة، والميليشيات الشيعية، والمقاتلين المسيحيين، وقوات البيشمركة الكردية. وحتى السردية الإرهابية مدمجة في الفيلم من خلال الحوار الذي يجريه علي مولا مع ناصر عيسى، أحد المقاتلين الداعشيين. وكان الفيلم قد انطلق بسؤال بطله علي مولا: هل سينتهي داعش بانتهاء الحرب ضده؟ وهذا معناه أن الخطة العسكرية العراقية كانت ستحقق غايتها؛ أي سحق داعش. لكن السؤال الذي دار بخلد مولا كان أعمق من غاية هذه الخطة العسكرية، لأنه يشك في أن داعش سينتهي بدك حصونه. ذلك أن العبارة التي رددها الإرهابي ناصر عيسى ظلت تسائله، وهي تفيد أن الإرهابيين زرعوا الفكرة في عقول الأطفال، ولذلك ستظل موروثة خلال السنوات، وربما العقود القليلة المقبلة. أضف إلى هذا أن علي مولا يرى أن الإرهاب متجذر كذلك في بذور الفتنة القائمة بين المنتمين إلى الطوائف والمذاهب والإثنيات المختلفة. كما يرى أنه ما لم يتم القضاء على بذور الفرقة وزرع فكرة الانتماء إلى الوطن الواحد، القائم على قيم الاختلاف والتعدد والتعايش والتسامح، فإن داعش ستظل تتربص بوحدة العراق واستقرار أبنائه. ينتهي الفيلم بهذه الأمنية الجميلة التي تجلت، على نحو ملموس، في فكرة الحشد الشعبي العراقي للقضاء على تنظيم داعش، والتي تدعو إلى حشد شعبي ثان من أجل وحدة العراق ووحدة مستقبله. أمنية في المتناول، طالما أن الاتحاد من أجل استعادة الموصل جعلت العراقيين يعون أن استعادة الوطن لا يمكن أن يتم بالانكفاء خلف الطوائف والعقائد والاثنيات.